مراجعة لكتاب: «الفكر والاجتهاد: دراسات في الفكر الإسلامي الشيعي»
لم يكن متخيّلا لي حجم الافادة من كتاب المفكر السعودي زكي الميلاد، الافادة من التحليل والشرح والتقديم لموضوعات بغاية الأهمية، موضوعات قد يصعب توفرها في كتاب واحد لمهتم.
لكن زكي الميلاد المفكر الإسلامي جمعها، وانكب على الاضاءة عليها في طيات صفحات معدودات وصلت إلى 255 صفحة فقط.
ضمن سلسلة الدراسات الحضارية الصادرة عن ”مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي“، يسلبنا زكي الميلاد باسلوبه الشيّق الإنتباه فيما يتعلق بحجم الاطلاع الذي يملكه حول مختلف الموضوعات الإسلامية الشيعية بشكل خاص.
هو كتاب عبارة عن وجبة دسمة متكاملة قد يُؤسس عليها في كتب تفصيلية مختصة، لكن لا غنى عن هذه الوجبة التي تحمل الفكر، والثقافة، والدين، والحضارة، والتقريب، والواقع الشيعي العام، وكل ما يرتبط بهذا الفكر الحيوي، بدءًا من الاجتهاد وصولا إلى المرأة، وانتهاءا بالصورة النمطية حول الشيعة
ففي عشرة فصول غنية، يأخذنا الميلاد بين دفتي كتابه، فلا نمل ولا نكل من السعي إلى مزيد من الغرف من وعاء الثقافة الجادة.
فهو يبدأ بالاختبارات التي مرّت على الشيعة، وهي أربع اختبارات تاريخية، أولها في القرن الثاني الهجري، وثانيها في الرابع الهجري، ومن ثم السادس الهجري، وآخرها في الحادي عشر الهجري، ليتناول في الفصل الثاني من كتابه تطور فكرة العقلانية والصراع بين اصول الفقه والمقولات العقلية.
ثم يتطرق بالتفصيل إلى المفكر الإسلامي ”ألدماد“، ولينتقل إلى شرح فلسفة تلميذه الفيلسوف ”ملا صدرا“ ونظريته حول ”الحكمة المتعالية“ التي ضاهت الفكر الغربي بقوتها والتي صعُب على اساتذة الفلسفة أحيانا الاقتراب منها.
وإلى النقيض من العقلانية ينتقل الميلاد إلى ”الإخباريين“ وتأثيرهم السلبي على العقل الشيعي، وزعيمهم الإسترآبادي ”وكتابه“ الفوائد المدنية".
بعد اطلالته على من سبق من المفكرين الشيعة، يبدأ الميلاد رحلته باتجاه الأفكار والأفاهيم العامة ك ”الجماعة“ و”الأمة“ و”التقية“، ومسألة ”التقريب“ وقضية ”فلسطين“.. فيتناول بالتفصيل مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية منذ جمال الدين الأفغاني وصولا إلى السيد موسى الصدر ورحلته من إيران إلى لبنان بإسلوب بعيد عن الأيديولوجيا، حيث تطرّق إلى كتابات ومقالات الصدر الاقتصادية ومهمته القيادية في لبنان، مهمة إنتشل فيها الطائفة المحرومة «الشيعة» من بؤرة الحرمان، ليدخل نفسه مقابل ذلك في خطر التغييب والاختطاف. كما فصّل مشروع الصدر الوطني، وما خلفه غيابه من نتائج ثلاث تحتاج إلى كتاب سياسي يجمع تاريخ لبنان الحديث.
تطرّق الميلاد بشكل تفصيلي إلى موضوعة المرأة، حيث في هذا الفصل انطلق الكتاب نحو موضع آخر، لم يكن من ضرورات البحث العلمي بقدر ما هو من ضرورات البحث الفقهي الاجتماعي الحقوقي.
أما الفصل الأبرز، وهو الأخير، الذي تناول الميلاد فيه مسألة مهمة، وهي تصحيح الصورة النمطية حول المذهب الشيعي، والذي طاله الكثير من التشويه، فربطها بأزمة المعرفة إذ تطرّق إلى كتب كل من أحمد أمين، وحسين كاشف الغطاء، في هذا الاطار الذي يمكن وصف الأول بالتشويهي والتوحيشي والثاني بالتوضيحي والردعي التصحيحي.
وللعلم إنّ المفكر والباحث زكي الميلاد متخصص بالدراسات الإسلامية المعاصرة، وهو رئيس تحرير مجلة ”الكلمة“ الفكرية. وله إصدارات عديدة مختصة، منها: الإسلام والمرأة، وكيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟، والفكر الإسلامي: تطوراته ومساراته المعاصرة.
ويتميز إسلوب الميلاد بالسلاسة، وبالسهل الممتنع، والعمق والمعلومة الدقيقة بعيدا عن الأدلجة المقيتة، فيجتذب القارئ للنهل من نبع كتاب غني، إذ كل فصل من فصول هذا الكتاب يصلح لأن يصير كتابا مستقلا، لكن الميلاد يقدمه كتلة واحدة، ليختار المهتم بالمزيد من البحث والمتابعة. هو كتاب مفتاحي أقرب إلى العمل الموسوعي الشاق الذي يعبّر عن كل فكرة بدهاء وذكاء.
وأرى حاجة طلاب الفلسفة في الجامعات العربية والإسلامية لهذا الكتاب. خاصة، ان معظم طلاب الفلسفة في الجامعة اللبنانية، مثلا، يشعرون بحجم النقص في مجال الفلسفة الإسلامية المعاصرة، إذ أن المنهاج التدريسي في الجامعة اللبنانية مثلا، توقف عند ابن سينا والكندي وابن رشد، وتحول نحو الفلسفة الأوروبية الحديثة، ولولا بعض الاساتذة الذين يبذلون جهودا خاصة وشخصية لاطلاع الطلاب على فلاسفة غربيين معاصرين مثلا كهايدغر.
ويبقى النقص في مجال الفلسفة الإسلامية قائما ومستمرا بسبب الواقع العلمي القائم في لبنان المتوجه نحو الترجمات الغربية، وإن كانت هذه الترجمات مُغايرة أصلا للنص الأصلي.
ميزة هذا المؤلف أنه تناول الفكرة الفلسفية من وجهة نظر دينية إسلامية على مراحل طويلة، بدءا من القرن الثاني الهجري وصولا إلى العصر الحالي.
ويمكن لبعض البحاثة عدم موافقة الميلاد على آرائه إلا أن نتاجه هذا، يبقى خلاصة جهد ورؤية واطلاع وبحث وقراءات تفصيلية، حيث مرّ على مراجع الشيعة القدماء، وتطرق إلى نهجهم في التغيير أو الهمود.
الملفت في هذا الكتاب هو الفصل الأخير الذي ينقل ألم ووجع البحاثة والعلماء الشيعة جراء تعسف الكتّاب السنّة في نقل الصورة الغربية عنهم دون الرجوع إليهم، رغم ان الشيعة يعيشون وسطهم وفي بيئتهم ومعهم وبينهم.. فلما لجأ الكتّاب السنّة إلى اعتماد نصوص تشويهية لهذا المذهب؟
فلولا جهود حسين كاشف الغطاء من خلال مؤلفه «أصل الشيعة وأصولها» للرد على الافتراءات والتشويهات لما صدّق أهل السنة أن هذه المعلومات دراسة متكاملة تتطلب القراءة عدة مرات، فالجهد المبذول فيها كبير جدا.
ولا ينسى زكي الميلاد أن ينقل تطور الفقه الإسلامي حيال المراة، الذي كان يعتبر المرأة أقل من الرجل، وضلعا قاصرا، ولا أهلية لها، ولا رأي، ولا ميراث، ولا حضانة لأطفالها، مهدورة الحقوق من كافة الجوانب إلا من واجباتها الدينية التي تتساوى فيها مع الرجل.. فكان لبعض المراجع الايرانيين دورهم في تغيير هذه النظرة، كما للسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين... صاحبا اليد الطولى في تطوير الفتوى.
الباحث زكي الميلاد مفكر عربي شاب يفاجىء القارىء العربي بسعة آفاقه وتصديه لقضايا شائكة.