آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم:... ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19» كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ «20»... صدق الله العلي العظيم - القيامة.

للترتيب الزمني؛ يستخدم العرب ثلاثة من حروف العطف، وف ثم «حروف العطف تسعة يضاف إليها حتى، أو، أم، بل، لا، لكن». الحروف الثلاثة، وف ثم، تصنف تحت ”عطف النسق“. الواو تفيد المشاركة بدون أي فرق زمني. الفاء مثل الواو إلا أنها تفيد الترتيب الزمني بين المعطوف والمعطوف عليه؛ مثلا، أرسل الله إسحاق نبيا فيعقوب، وذلك لأن النبيين تزامنا مع بعضهما. ونقول، أرسل الله إبراهيم رسولا ثم محمدا ﷺ، وهذا يفيد فارق زمني غير محدد. خلق الله الشموس الضخمة لتكوين العناصر ثم الشموس الصغيرة لمناسبتها للحياة.

في ذهابي وإيابي إلى ومن الرياض، أستمع للقرآن وأتمعن فيما أسمع كثيرا لعدة أسباب. ومنها أن القراءة تشغل الدماغ كثيرا بصورة عجيبة لأنها تتطلب نظر، وذاكرة، ومعرفة، وربط. والنظر مكلف جدا للدماغ. لذلك، تجد من يحاول التفكير أن يغمض عينه ليقلل من المشتتات. مع الاستماع، أستفيد أكثر لأن الطاقة المستهلة للتفكير والربط تتطلب طاقة أقل وتكون أكفأ. وكثيرا ما تأتيني أفكار، حبذا لو أدونها حينها لأنني ما أن أصل إلى وجهتي حتى أنسى.

في يوم الأمس، السبت، وفي الطريق، استمعت للكثير من السور القصيرة، ومن ضمنها سورة القيامة. لفتت انتباهي الآيات الافتتاحية الخمس وترتيبها الزمني. أرجح للقارئ النظر إلى التفسير الذي يرتاح إليه بخصوص هذه الآيات، وإليكم ملاحظاتي عليها.

نلاحظ أولا نهي عن تحريك اللسان. وهذا فعل مضارع، يحاكي الحدث. ثم يؤكد سبحانه بأنه تكفل بجمعه وتبيان طريقة قراءته المناسبة. ”فإذا قرأناه“ بها حرف عطف يدل على التزامن بحيث يكون الجمع والقرأنة متزامنان وسابقان للاتباع. ثم نأتي لآية 19، والتي يكون فيها التبيان بزمن متباعد. لماذا؟ لماذا لم يكن البيان وقت الحدث وعطف بحرف واو أو فاء، على الأقل؟ ومن يكون المفعول به المستتر؟ هل هو الرسول ﷺ أم الناس؟ آية 20 تفيد أن المخاطب غير الرسول ﷺ لأن الرسول ﷺ لا يحب العاجلة ولا يهمل الآخرة، ولو أراد ذلك لما ضحى لأجل الآخرة.

﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا «11 - الإسراء». نعود للآية 19 والتي تفيد بأن بعض البيان لم يكن حينها متاحا للناس لعدة أسباب، ومنها أن معرفتهم وعلومهم وعقولهم لا تستوعب ذلك البيان. وسيظهر الله البيان لاحقا على بعض عباده الذين اتخذوا من العلم سبيلا. مثلا، لم يتم التعرف على التوسع الكوني إلا في بدايات القرن العشرين، وذلك لأن الناس وصلت من العلم معرفة المقبل إلينا والمدبر عنا من خلال تحليل الأطياف الضوئية، أزرق يعني قادما إلينا، وأحمر يعني مدبرا عنا.

هذا يعني بأن بيان القرآن سيكون في الزمن والمكان المناسب. وقد يكتشف البشر لاحقا علوما تزيدنا بيانا بما قد أتى في القرآن الكريم. مثلا، في أحد التفاسير، أتى شرح الآية المباركة ﴿والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع بأن ”المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها وغروبها بعد طلوعها، وقيل: رجعها إمطارها، والمراد بكون الأرض ذات صدع تصدعها وانشقاقها بالنبات“. ولا بأس بهذا التفسير الذي قد ناسب زمانه، ولا يخالف هذا الزمن، ولكن الأمر أعمق من ذلك بعد أن انكشفت إلينا بعض الأمور مثل الانزياح القاري بسبب تصدع القشرة الأرضية بشكل واسع جدا لدرجة أن هذا التصدع قد يتسبب في زلازل أو براكين أو تسونامي يأتي بطوفانه على الأرض، إذ رأينا هذا الأمر بأم أعيننا.

للسماء عدة معانٍ. فكل ما يعلو سماء. طبقة الأوزون تعتبر سماء لإننا بحاجة لأن نخترقها في الخروج من الأرض أو الدخول إليها، وهذه الطبقة حاجز واضح استفاد منه مهندسو الاتصالات في بث ذبذبات التلفزيون التي توجه لطبقة الأوزون فتصطدم بها وترجع لنستقبلها في البيوت، ومن عاش ذلك الزمن يلاحظ أن الاستقبال وقت الرطوبة وفي فصل الصيف أفضل منه في الشتاء. ولن نخوض هذه التفاصيل. فالرجع هنا قد يعود على عودة الموجات إلينا بعد توجيهها للسماء.

وفوق ذلك، وإذا تغاضينا عن حالة البلازما، نحن نعرف أن الحالات المادية الموجودة على الأرض ثلاث: غاز، وسائل، وصلب. التحول من الصلب إلى السائل ذوبان «انصهار»، والتحول من سائل إلى غاز عبارة عن تبخر. والتحول من الصلب إلى الغاز مباشرة عبارة عن تسامي «تصعد». مثال ذلك تبخر الثلج الجاف، والذي هو عبارة عن تثليج غاز ثاني أكسيد الكربون، والذي يتحول مباشرة إلى بخار نراه بأعيننا. فلو عرضنا هذا النوع من الثلج إلى الجو فإننا لن نراه يذوب إلى سائل إطلاقا، بل سنراه يتسامى كغاز.

ونعود للسماء، والتي لا تطرد إلا الغازات منها إلى الفضاء، فهي لا تطرد سوائل أو أصلاب. المادة تتسامى عندما يصطدم شهاب صلب بالغلاف الجوي فنراه نارا بحيث يحترق ويتحول إلى حرارة وبخار ولا يتحول إلى سائل. وبسبب الصدمة تحدث فجوة بصورة مؤقتة في الغلاف الجوي فتهرب من الأرض بعض الغازات الخفيفة مثل الهيدروجين والهليوم «تتسامى».

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا «محمد - 24». ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا «الفرقان - 30». قراءة القرآن، أو سماعه، بدون تدبر لا يفيد كثيرا ويجعلنا ممن يهجر القرآن. الذين قتلوا عليا بن أبي طالب كانوا من حفاظ وقراء القرآن، ولكنهم هجروه. القراءة والحفظ والاحتفاظ بالقرآن لا تعني أي شيء ما لم يتربع القرآن على أفئدة الناس، فيكون لسانهم الذي ينطقون به، وسلوتهم وقت الاختلاء، ويتدبرونه في كل صغيرة وكبيرة.

سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل