ذاكرة الوطن والباب الموارب للصورة
وأنا أقلب أعدادًا سابقة من مجلة «أخبار المكتبة»، الصادرة عن مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، لفتتني الإشارة إلى تبرع ورثة أحد الأطباء الاستشاريين بمكتبته الخاصة لصالح المكتبة الوطنية، وبجواره خبر آخر لمهندس على قيد الحياة أهدى أكثر من 2000 كتاب من كتبه للمكتبة هو الآخر، وبالعودة إلى باقي الأعداد من تلك المجلة اكتشفت أن هذه الإهداءات تقليد دارج في هذه المؤسسة الثقافية العتيدة، حيث اعتادت تلقي الكثير من الإهداءات من السفراء والمشايخ والكتاب والشخصيات البارزة اجتماعيًا، وهي في المقابل تمارس الفعل ذاته من خلال إهداء بعض من مقتنياتها للأندية الأدبية وسواها.
ولعلمي باهتمام المكتبة القديم بالصور التاريخية، كنت أطمع في قراءة أخبار مشابهة عن تبرع عوائل وأفراد بأرشيفهم الفوتوغرافي، لما يمثله من وثيقة مهمة عن تاريخ هذا البلد، فالصورة الفوتوغرافية تتصاعد قيمتها كلما تقادم بها الزمن، وتحولت إلى شاهد على المكان والإنسان، وما يتجلى عن العلاقة بينهما من تفاعلات وآثار مادية، مؤسِسَةً بذلك علامات دالة على فترات تاريخية زاخرة بعناوين الثقافة والاجتماع والعمران.
لم أجد حقيقة ما ينبئ عن مبادرات كتلك، إلا أن المكتبة تركت الباب مواربًا وهي تتيح فرصة البيع والتبرع بالصور التاريخية عبر خدماتها الإلكترونية، المكتبة التي سبق أن أعلنت في مناسبات سابقة عن امتلاكها لأكثر من 70 ألف صورة فوتوغرافية، وهو عدد مهم إلا أنه بحساب مساحة الوطن وذاكرته يبقى ضئيلا، ولعل الجزء المفقود في هذه العملية هو توسيع دائرة الصورة التاريخية وإعادة تعريفها، فما تعرضه المكتبة من خلال موقعها ومن خلال المناسبات الثقافية التي تشارك بها لا يتجاوز الوجه الرسمي للبلاد، والمعالم التاريخية للمكان، بينما دائرة الصورة التاريخية تشمل كل ما يتصل بالحياة اليومية للناس، وما ينبثق عنها من أنشطة وفعاليات وممارسات اجتماعية وثقافية واقتصادية.
الصورة الفوتوغرافية ليست مخطوطة أثرية بالمعني المتعارف عليه، لكنها ترتقي لأهمية هذه الأخيرة بوصفها منتجًا ثقافيًا حيًا، يختزن ذاكرة المكان، ويصف أحوال الإنسان، بمثل ما يمتلك القدرة على استنهاض الذاكرة وتثبيتها، وتقديم مادة للدرس والمعرفة، وأي دعوة تقدم للناس من أجل الاستثمار في هذه الذاكرة البصرية ستكون بمثابة تحقيق للشراكة المجتمعية في مشروع ثقافي يحفظ للوطن ذاكرته الرسمية والشعبية على حد سواء.
ما زلت أتذكر تبرع المصورة الأمريكية «دورثي ميلر» يوم كانت في التسعين من عمرها بخزانة الصور التي تحتفظ بها من حياة الناس بالمملكة إلى جامعة جورج تاون في واشنطن، ومثلها فعلت عائلة «توم برجر»، رئيس شركة أرامكو الأسبق، حين أودع الإبن الأكبر تيم قبل عام من رحيله ما تملك العائلة من صور وأفلام وأوراق للجامعة ذاتها، وفيها أوراق والده وصوره، وكذلك صنعت عائلة المصور الإيطالي الذي جاء من معسكرات الحرب في إرتيريا إلى رأس تنورة عام 1944، إيلو باتيجيللي، حيث قدمت عائلته مجموعة من صوره لصالح المتحف التابع لجامعة إكسفورد بلندن، وفيها الكثير من صور المنطقة.
كثيرون في هذا الوطن الممتد يملكون رصيدًا مهمًا من الصور والوثائق التي يمكن أن تهب الباحثين والمهتمين مساحة للبحث والدرس والاكتشاف، غير أنها تفتقر لمبادرات تبعث الأمل بعدم فقدان هذه المصادر والوثائق في المستقبل، خوف الكثيرين من مصوري الأمس من إخراج أرشيفهم للعلن قد ينتهي إلى تركة لا تجد من يحسن الحفاظ عليها، فتصبح عرضة للتلف والضياع، ستجد في كل بلدة وقرية ومدينة كاميرات عتيقة غيبها هذا اللون من الحرص المبالغ وباتت تسكن الغياب، فلا هي طليقة ينظر إليها الناس، ولا هي محفوظة في دوائر الحفظ التي يمكن أن تفتح الباب لاستثمارها.
بلا مبادرات جادة ستبقى الصورة الوثائقية تدور في فلك «الحنين إلى الماضي» فقط، وتزداد فرص الضياع لإرشيف الوطن، وذاكرة الناس، وتتضاءل الحظوظ في تأسيس ذاكرة بصرية للمكان، ذاكرة ترفد الباحثين بما يشعل جذوة البحث عندهم، ويفتح الطريق للأجيال القادمة لمعرفة ماسقط من دفاتر المدونين.