الشغف ولحظات الإلهام
تأتي الانفجارات الإبداعية ومنها الإلهام، دون سابق إنذار. فلا يُمكن لأحد أن يتنبأ بمكان أو زمان قُدوم هذا الضيف الجميل، فهو يَحلُ فجأة وبغتة دون سالف دعوةٍ أو تبشير. الإلهام قد يأتيك وأنت تنتظر دورك في المخبز، وقد يطرق بابك وأنت للتو قد وضعت رأسك على المخدة في قَيلولتك المعتادة. وقد يُقبل الإلهام وأنت خلف مقود السيارة متجهًا لعَمَلك. لذلك عليك أن تكون مُستعدًا لتحقيق أقصى استفادة من هذا الإلهام المُرتَجَل وذلك عن طريق تدوين الأفكار في رأسك ومن ثم إفراغها في مدونتك عندما تصل إلى مقر إقامتك.
ها أنت قد عَلمت أن الإلهام سيأتيك على حين بغتة، لكن من المهم أن تدرك أيضًا أنه من الطبيعي أن تراودك بعض المخاوف، عند اختبار تلك التجربة الجديدة والفريدة من نوعها. هناك خشية ووَجَل من نوع آخر، وهو ما إذا كانت الأفكار التي راودتك، جيدة ومقبولة عند طرحها للعامة في المقام الأول.
من الطبيعي ودون شك أن تتساءل كَحَالِم ومُلْهَم عَمّا إذا كان مشروعك الجديد مُفيدًا أَمْ لا. هل مهاراتك في النحت أو الرسم أو الطبخ أو حتى الكتابة على قدر من الجودة. هل يمكن أن يتقبلها المهتمين من حولك، أو أنك سَتواجَه بالسُخرية والاستهجان..؟ هذه بعض من أسئلة كثيرة عليك أن تطرحها على نفسك وتترك الإجابة عليها، لتخميناتك وحدسك.
إذا كنت تعتقد أنه يجب أن يكون لديك أدوات باهظة الثمن قبل أن ترسم لوحة فنية أخّاذة، أو تُحَضّر طبقًا لذيذًا، أو تكتب قطعة أدبية جميلة، فالأمر ليس بهذه الصورة الكلاسيكية، كما أثبت لنا التاريخ عن سِيَرْ مشاهير العالم من أعمدة الفن والأدب.
العديد من الرسامين والفنانين والكُتّاب الأكثر نجاحًا على مَرّ التاريخ لم يكن لديهم أدوات ومعدات فاخرة يوظفونها في مجال أعمالهم، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من إبداعات جعلتهم في مصافي مشاهير العالم. على سبيل المثال لا الحصر، لم يصل الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي إلى روعة وجمال كتاباته الأدبية والشعرية لأنه كان يكتب بقلم مُرَصّع بالذهب والألماس، بل كان يستخدم قلمًا أو ريشة حِبْرٍ بسيطة لا يتعدى ثمنها القرشين.
ولك في الفنان والنابغة الإيطالي ليوناردو دا فينشي أَفْيَدَ عِبْرَة. وُلدَ دا فينتشي من أبوين فقيرين، لكن هذا لم يكن عائقًا مانعًا له من تحقيق شغفه. كونه أعظم رسام عَرَفه التاريخ، لم يمنعه أن يكون نَحّاتًا وأديبًا ومُبْدعًا. صَحيحٌ أن دا فينتشي لم يتلقى أيّ تعليمٍ أكاديميٍ يُذكَرْ، لكن فضوله النَهم وشَغَفه اللامحدود أوصله إلى الشهرة من أوسع أبوابها. لوحة الرسام ليوناردو دا فينشي «الموناليزا»، لم تكن لوحةً عادية بالمعايير الدولية، بل قيمةً فنية بارزة، أوجَدَها هذا الشغوف المُولَع بالإبداع، وجعل منها أيقونة يتغنى بها عُشاق الفن أنّا وُجدوا.
قد لا يحمل أقربائك أو أصدقائك وحتى الكثير من الناس في مُجتمعك شيئًا من الضغينة أو المقت لك في الخفاء، لكن هذا لن يكون سببًا أو مُبَررًا جوهريًا يجعلهم يُعَبّرون عن دعمهم المَعنوي لك، وحَثك على المزيد من العطاء والإبدَاع. لكن هناك أمُورٌ نفسية ”نسأل الله العافية“ لا يطّلع عليها إلا العَالمُ بما تخفي الصدور، قد تمنعهم من فِعْلِ ذلك.
لا تجعل من ترهات الحياة العابرة، حَجَرَ عَثْرَة تقف بينك وبين شغفك، والتطلع لتطوير ذاتك وتحقيق آمَالك. إذا كنت تمتلك من مشاريع الإبداع ما يجعلك ترتقي بنفسك إلى سُلّم العُلى، فافعل ولو كان ذلك على حساب علاقات قد لا ترتقي لأن تكون ذات قيمةٍ جوهرية. أمرٌ آخر، منذ متى تعتمد على نصيحة الأصدقاء عندما يتعلق الأمر بتحقيق أحلامك..! تَوَكل على الواحد الأحد، واسلك طريقك بثباتٍ وعزيمة، وإن اهتزت الأرض تحت قَدَمَيك. واعلم أنه «من سار على الدَرب وَصَل».
في النهاية، اتبع غرائزك الإبداعية واغتنم لحظات الإلهام. لا تخرج عن مسارك فقط لسماع كلمة نشاز هنا، أو تثبيط عزيمةٍ هناك. كُنْ صَادقًا مع نفسك ورؤيتك الإبداعية. لن يكون إبداعك وشَغفُك فريدًا من نوعه حتى تحتضنه وتداريه، تماما كما الطفل الصغير، الذي يحتاج إلى عناية واهتمام، إلى أن يقوى ويَبلُغَ أشُدّه. عندها فقط، يمكنك ترجمة ما يدورُ بداخلك على أرض الواقع، لِيخرُج للملأ، فَنًا وإبداعًا، كما أردتَ له أن يكون.