آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 9:31 م

المرأة والرجل فى قصص حسن البطران: طقوس الصمت والقسوة والانتظار

الحسام محيي الدين * المصري اليوم

من بُنُوَّةٍ اجتماعيةٍ ما، تهبُّ ريحُ التّجربة القصصية للقاص حسن البطران، وتفتحُ أمامنا جدلية التجارب المنوعة التى تهدِفُ إلى إنصاف ذاته بأنْ يثأرَ لها مِمّا لقيهُ ويلقاه فى دروب الحياة المنوعة الآفاق سنًّا وتجربة، وعطفًا على ما تركه ذلك من ندوب فى قسمات ملكته الكتابية. البطران، القاصّ السعودى المعروف والحائز على جوائز عدّة عربية ودولية، توفَّر أدبُهُ على وثائق إنسانية مليئة بالمفارقات والوقائع والطقوس المُجتمعية التى تلتمسُ وِجهةَ نظرٍ أبيستمولوجية مطبوعة تستنطقُ دوالى نموذجية عمّا يرى إليه من وقائعَ ينهضُ عليها مُنجزُهُ السردىّ، ودائمًا على بساط الحاجَةِ إلى بسط مقروئيةٍ جديدة تنتظمُ رؤاه بين الخاص والعام فى نصوص رشيقة تنهض على تيمات مكثفة تقنيا لا تُشعرنا بأننا نتعامل مع جنس أدبى يتيم، بلا تاريخ، ولا حيثيات، بل تدفعنا للبحث فى انتماء فنى يؤكد حضوره بين الأجناس الأدبية العربية، برغم علمه أننا لم نصل بعد إلى تأطير تقليد أجناسى للقصة القصيرة جدا يدفع عن نفسه سمة الإشكالية الهوياتية الخاضعة لسلطة أدب التراث اعتبارًا، وبرغم ما اتصل منها إلينا من تشاكيل الحكم، والنوادر، والمُلَح، والأقوال المأثورة وغيرها مما تواضع عليه العرب كمنجز كتابى موجز المفردات مكثف المعانى، هى بشكل من الأشكال قصص قصيرة جدا فى الشكل والدلالات وتؤدى مهمتها شئنا أم أبينا وإن اختلفت التسمية.

وأجري خلف خولةفى مثل هذا التصور الموضوعى، صدرت للبطران مؤخرًا مجموعتان من القصص القصيرة جدا، الأولى «مارية وربع من الدائرة» عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع، بورسعيد، طبعة أولى 2020، والثانية «أجرى خلف خولة» عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، العراق، بابل طلعة أولى 2021، حيث يتعامل فى الأولى مع الآخر المطلق: الرجل، الذى يخضع لتحولات وقائعية تتنوع بين البؤس والعوز والفراق والحب والنعمة والخير والشر، تأتى بمعظمها تحت سقف رؤيته إلى امرأة ما يتفاعل معها فى مفارقات المواقف المتقلبة، أما الثانية فهى مجاز تخييلى باسق الدلالات لنصوصه التى تمرُّ بمخاض تجارب إنسانية تطغى عليها أيضا صورة الآخر، إنما المرأة، على اختلاف تلونات طقوسها الشعورية: الحبيبة، الوفية، الخائنة، الأم، المخادعة، الثائرة، وغيرها من العلاقات التى حكمت تفاصيل أحواله معها. فى المجموعتين يوجز البطران مبدعا وبشكل ماتع ومشغول بدقة وبما يناسب المعنى المراد الذى يتطور إلى تداعى تفاصيل مسوغات ومآلات العلاقة مع الآخر، المرأة حينا والرجل أحيانا، يمكن تفسيرها بالغوص على معانى الكينونة العميقة للحكمة إزاء المواقف والأزمات الإنسانية بوصفها حقائق، ما يجعل مما نقرؤه أدبًا غنيًا بالرؤى مع متعة الغموض المطلوب والمحمود فيه، كيلا يصبح نصوصًا عادية إخبارية مملة، وهو غموض اقتضى من البطران الموهبة فى إطلاق قصة منتقاة بعناية بألفاظها الأنيقة وحسن توظيفها فى العبارة الواحدة، تمنح كل شخصية حقها كصوتٍ مُباشِر مهما تكن أهمية الفكرة التى تدافع عنها، ما حتّم اختلاف اللُّغة بين قصّة وأخرى باختلاف وجهات النظر وتداعياتها بين الجوّانى منها، أو الخارجى.

حسن علي البطرانيثبت البطران مفهوم إنسانية المرأة بمنظور خاص وبمروحة أبعاد خلقية متباعدة منوعة، يطمح فيها إلى اكتشاف أفق التلقى لدى القارئ واختبار قدرته ككاتب على التأثير فيه، مؤكدا بذلك أن القصة القصيرة هى محور مجموعة ممكنات وتشاكيل فنية غضة تلتقى لتؤكد هوية المبدع وتتناسل فيها الرؤى ولا تنقطع بين قصة وأخرى، كمحاولات ريادية تستمد نضارتها الدائمة من الإدراك الجمالى للكاتب وهو يؤول ظواهر اجتماعية وجدتْ لها قسمات بارزة ومجازات نفسية ربما، نقول ربما، تفسِّر بمهارة بعض هزائمه الصغيرة كإنسان نموذجى يمثل الآخرين وليس نفسه بالضرورة. بذلك، يستكمل البطران رحلة اكتناه لمناحى الحياة فى إبحارٍ تصويرى مُرَمَّز يمخرُ اتّساع لُجّةِ المَعِيش بعُمقها المُضطرب، سواءٌ فيها المتنافرُ والمُتآلف وقَدْ أعنَتْهُ بحقّ حركيّةُ الدخول فى معضلة اجتماعية ليخرج منها إلى أُخرى فى دورة مأسويّة، حقيقية، لا تَجِدُ فى الأغلب حلًّا لأى من إحداها، مُبتعدًا من المنظور الأيديولوجى الذى لا يخدم النصوص أفكارًا وآراء، مقتربًا من الواقع المكتنز بسرديات المفارقات الحياتية بين بؤس ونعيم وميسور وفقير وجاهل ومتعلم كما فى قصة «بورصة» وقصة «أيام ملونة» من مجموعته «مارية وربع من الدائرة» حيث اندفع بنصّه كى يكون مُراوغًا حدَّ الإِتعاب، خجولًا حدَّ التقية، لكنه مفتوح ولا يستعصى على أَفهام المُتلقِّين، مُدَّخرًا فيه على قِيَمٍ فنّية تبتعدُ باتّجاه التّخزين الوقائعى لكلِّ حدثٍ بذاته حتى نجاح اللّحظة السّردية التى هى الهدف/ القمة حيث تقفُ فكرته بكلِّ تألقها الدِّلالى.

بذلك فإنه لا اغترابَ حَدْسى فى فهم ذاتية هذا القاصّ الممتلئة بقلق الكتابة، وهى ترسلُ قلمها برغبةٍ وتجرُّد فى توثيق البدايات باتجاه النهايات التى تذهبُ دائمًا إلى درجة الصِّفر فى مصائر شخصياتها، عطفًا على تعريةِ المَعِيش بإحساسٍ عميق ب «لا زمنية الأدب» كما يقول رينيه ويليك وبأنّ الوقت ليس عائقًا صلْبًا بوجه القصّ، ما يتيح له رسم فضائه السّردى بذاكرة اعتباريةٍ مسؤولة، تشتقُّ، فيما عايشَتْهُ، قائمةَ ما ثَبُتَ من الصورة على أصلها، لكنها تتنكّبُ استقصاءَ المدلولِ من الدّال فى أحياز اللّامُفيد واللّامؤثِّر فى القارئ كالاسم أو الوظيفة أو الجنس. وحدها المواقفُ الزّاخرةُ بالتّضاد تمسكُ بنصوص البطران، وتمارس نظرية الخسارة والربح بين الوفاء والخيانة والكرامة، الحب والكراهية، الحسد والإعجاب، والضعف أو القوّة، مِمّا هو منجزٌ طَلْقُ الصِّياغة عمّا يمور فى مجتمعاتنا - على اختلاف خصوصياتها - من مُشكلات، وتحقيقٌ لمناخٍ رؤيوى مُتعاكِس لِطَرفَى نقيض يُحفِّزُ القارئ على تبنى نظرة تشاركية تفضح المسكوت عنه وهى تتعالقُ غايةَ الكاتب، فلا ينتظرُ الإجابة عما أثاره الأخير من تساؤلات بل يُبادِرُ بنفسه إلى تأويل ما انبسط من مشهديات معاصرة مجتمعية صادمة فى لوحات القصّ. بهذا المستوى وَكَرَاوٍ مُشارِك، يتقِنُ هذا القاصّ التقاطَ كلّ جزئيةٍ فنيةٍ على حِدَة انطلاقًا إلى مشروعٍ سردى مُلتزم، قَيْدَ الجِدَّة والواقعية فلا يبتعدُ من حراسةِ المعنى الجمالى لاستثمار اللُّغة ومستوى التعبير، وسرعة الحوار واختصاره، اشتغال الزمكان، الوعى الشعورى المُكثّف بالترابط مع الزمن الوجيز لكل حبكة، وليس انتهاءً بإدخال القَصِّى / الشِّعرى ممّا ترجمته بعض المتون إنعاشًا للبِنى الفنّية بينهما، الذى تمحور فى أنساق مُتّصلة إلى شخصيةٍ واحدة هى الكاتب نفسه، لتلامس بهذا المعنى صيغة السّيرذاتى فى مُمكنات ما انبثقَ عنها. فإذا ما انتقلنا من التنظيرى إلى الإجرائى نجدُ أنّ الكاتب قد انطلقَ إلى ترتيب منظور موضوعى زاخر بالتجديد وهو يشتغل على كلِّ حالة رصدتْ تفاصيل بيئته بحُكْمِ التجربة مع محيطه بشرًا وحجرا، وجسّدتْ مشكلةً راهنيّة خاصّة قائمة بِذاتها؛ ففى قصة «مسار نهايته سراب» نجد البعد المأسوى فى علاقته الرجل بحبيبته، وفى قصة «ماء لا يروى» الصورة مختلفة حيث نصطدم بخيانة الزوجة لزوجها، وكذلك الحبيبة لحبيبها الطيب فى قصة «احتراق ورقة»، بينما نصادف المرأة التى تلفظ طفلها فى «حرارتها تقاوم الماء»، أما المرأة الثائرة فلها نصيب مما كتبه البطران كما فى قصة «ملامح ذات أصوات» حيث تتمرد على ذكورية المجتمع. إنها دفقات إنسانيةً حُبلى بتأويل اتصال الكاتب بين ذاته وعالمه الخارجى، وهو ينحو إلى مُقترباتٍ إشكالية لتحولات العلاقة بين الرجل والمرأة، فنظنُّ بادئ الأمر أنّهُ قدّمها لنا بمفهومٍ مُتعارفٍ عليه يجعل من نصّه منجزًا عاديًا يتعلق بطابع نفسى ما، حتى نكتشف سريعًا أنهُ خَرَقَ ذلك الأُفُق التقليدى وبمنظور مغاير مُصطحبًا القارئ ليضعهُ فى موقف المتسائل عن مسوغات وحيثيات تلك العلاقة ومسمياتها وفرضياتها وكيف ظهرت ولماذا نشأتْ أصلًا موحيًا بين السطور أنّ ما حصلَ ويحصل هو نتاج عقليةٍ غير صحّية، تبتعد من مفاهيم الدين والحب والزواج بشكل ممجوج. ربما هى محاولة جيّدة لتفسير ظواهر مجتمعية وجدتْ لها ندوبًا مؤثرة فى سلوكيات المعيش من حولنا، وقد نجدها فى مدينيّات أُخرى وربّما بنِسبٍ كبيرة، تجد ألف سبب لتطفو فوق سطح المجتمع مع المُعضلات الكبيرة التى يعانى منها أناس هذا الأخير ماديًا ونفسيًا ممّا لا مفرّ من عرضه فى أجناس أدبية عديدة كما فى القصّة القصيرة جدا.

بنفس زاوية الرؤية، بسط لنا الكاتب قوة الإرادات العبثية التى يتنكر لها وهى تشرئب بين الحين والآخر لتحكم سيرورة الحياة الإنسانية بالفوضى المنظمة، فى خط زمنى نفسيا، خاص، إنما مَرِن جدًا، يصلحُ لواقعه المباشر إنما غير مُقيَّد به، بمعنى إمكانية انفتاحه على الماضى القريب، أو تعالقه المستقبلَ المنظور لكل منا، فى تداخُلِ أزمنة فرضتهُ الحالة وكوّنَتْهُ فى متنِ النصّ من زاوية الوعى بالتناسق مع المكان الذى انتظم وفاقًا لما رسمه الكاتب من شخصيات، حيث فرضت هذه الأخيرة بوظيفتها العضوية وحضورها الإجرائى طبيعةَ الحيّز المكانى الذى يصلحُ فضاءً للقصّ أهّلَهُ ليُفسِّر معنى الموقف بين الأنا والآخر. فى نصوص حسن البطران حرىٌّ بنا الإشارة إلى لُغةِ الوصف التى تنوعت فى الجُمَل بين اسمية وفعلية، مُنسرحة بلِينٍ وإشراق من موصوفٍ إلى آخَر فى حركة مُتوالدة عفوًا تفاوت الإيقاع القصّى فيها بين نصٍّ وآخَر، انسجامًا مع وضعية الدّهشة المُتوقَّعة للقارئ، مع التنبه إلى ما انكشف فيها ملامح حضور القاصّ والشّاعر معًا.

ناقد لبناني