المسافة بين ”الهمجية“ و”المدنيّة“
ويل ديوارنت. فيلسوف وباحث أميركي ألمعي. قام مع زوجته بعمل عظيم جدًا وهو كتابة تاريخ البشريّة. تاريخ جميع الشعوب والحضارات والقوميّات بتتبع دقيق وسفر متواصل. المنتج كان كتاب ”قصة الحضارة“ في ما يقارب ال 50 مجلّد..
لفتني في قراءة الجزء الأوّل من الكتاب - حيث يحلل المؤلف مفهوم الحضارة التي عنونها في كتابه - إصرارُه الشديد على فكرة أنّه لا يوجد أيّ فرق جوهري بين ”الهمجيّة“ و”المدنيّة“!
يُقصد بالهمجية تلك العصور التي عاشها الإنسان الأول في الكهوف والجبال. جنبا إلى جنب مع الحيوانات المفترسة. وعدم وجود أي أثر للعلم أو الكتابة أو الصناعة.
يقصد بالمدنية هذه العصور التي تعتبر تقدّميه للإنسان. بعد ظهور مكتسبات العلم وتطوير الصناعة والحالة القانونية.
تعال نُراقب الآن دلائل ديورانت على فكرته.. تقريب الدلالة هو أنّ جميع مفاخر المدنية ليست إلا قناع لما كانت تعيشه الهمجية!
فالأسرة مثلًا بدأت في عصر الهمجية على شكل من الشيوعية الجنسية والإباحية المطلقة في اشتراك أفراد القبيلة في مجموعة من النساء، وهاهي المدنية تُعيد الكرّة إلى الإباحية مرة أخرى، عبر شركات كبرى لإنتاج الأفلام. وعرض الازياء. والدعايات. وعبر نمط الحياة الغربية القائم على الانعتاق الجنسي.
وليس القانون المدني إلا صورة عكسيّة للقانون الهمجي. الّذان يشتركان معًا في حقيقة نفوذ الأقوياء وسلطتهم على إرادة عوام النّاس.
نظام العمل الحديث ليس الا صورة أخرى من عصر العبودية والاسترقاق. التي تجعل من العامل تحت سلطة رجال الاعمال الذين يديرون حياته كما يشاؤون ويقيّمونه على أساس ما يُوفّر لهم من الدولارات.
أما المجتمع فهو لا زال يحتفظ بنفس تناقضاته. فهناك طبقيّة واضحة بين الاغنياء من النبلاء والمُعدمين. وبين أبناء العوائل العريقة والعوام، وفوق الجميع يوجد حالة من الكهنوت. أناس يطلقون المقولات وينسبونها إلى الله، للحفاظ على مواقع أو ترتيبات اجتماعيّة نافعة لهم.
هذه كانت رؤية أحد أعظم المفكرين البارزين المشتغلين في مجال البحث في التاريخ الموضوعي. بالنسبة له فإنّ المدنيّة لم تقدم جديدًا إلى دنيا الناس، لأنها قناع مزيف للهمجية، وما نحتاجه حاليا هو البحث عن مدنيّة ثانية. تحقق الطموحات والأهداف التي نريدها وقبل ذلك تحقق الإنسان.