السعوديون قهروا المستحيل...!
يوم أمس كان يوماً سعودياً مجيداً... لن يُمحى من الذاكرة... اليوم الذي اصطفّ فيه ثلاثون مليون سعودي، ومعهم ملايين العرب حول العالم، خلف فريقهم الوطني الذي عزف سيمفونية الانتصار أمام أقوى فريق كروي في العالم «الأرجنتين» على ملعب لوسيل في قطر.
معزوفة الأداء المتميز التي قهرت المستحيل... ثم الفوز المستحق، والاحتفالية التي لفّت أرجاء السعودية وأشعلت الحماس في كل بيت، لم تكن حدثاً رياضياً محضاً...!، كانت تعبيراً عن شعور بالهوية الوطنية الجامعة التي حققت الإنجاز للجميع... وقد شعر آلاف الجماهير في الملعب، والملايين حول العالم الذين خفقت قلوبهم مع «الأخضر»، أنهم شركاء في النصر، ويتقاسمون الفرح، وأن بينهم رابطة قوية تتعدى الحدود والمسافات والفواصل.
بالنسبة للسعوديين، أيقظت تلك المباراة وبحماس كبير شعورهم بالهوية الوطنية... كان السائد أن كرة القدم وسيلة لتحقيق «العولمة» على حساب الهويات المحلية، لكنّ العكس صحيح أيضاً... كانت كرة القدم هي الرابط الأشدّ قوة للشعور بالرابطة الوطنية، هذا ما رأيناه في أميركا اللاتينية وأفريقيا التي وحدتها الكرة وصهرت التنوعات في نسيج متجانس.
في كتابه «كرة القدم والعولمة»، يؤكد الكاتب الفرنسي «باسكال بونيفاس» أن كرة القدم قادرة على تكريس الهوية القومية للشعوب، وأنه: «على الرغم من كونية كرة القدم فإنها تبقى من الظواهر الحامية والمدافعة عن الهوية الوطنية مقارنة بالظواهر الأخرى المرتبطة بالعولمة والتي تذوب فيها الوطنية»، ويشرح: إذا كانت العولمة الليبرالية السائدة ترمي إلى حل الهويات الوطنية والقومية، فإن كرة القدم هي على العكس، عامل «لحمة» و«إسمنت» لهذه الهويات... ذلك أن مواطني كل بلد من بلدان العالم يلتفّون كصوت واحد حول فريقهم الوطني باعتباره يحمل «علم» البلاد إلى مختلف أرجاء المعمورة.
باسكال بونيفاس الذي ألفّ ما يزيد على أربعين كتاباً، قدّم ثلاثة كتب في فلسفة كرة القدم، هي: «جيوستراتيجية كرة القدم»، و«العالم مستدير مثل كرة القدم»، و«كرة القدم والعولمة»، يضيف: أن كرة القدم هي الاستثناء الأجمل في ظاهرة العولمة، وأنها الوسيلة التي تبقت لتحقيق التقارب بين الشعوب والمحافظة على الهوية الوطنية، «في نفس الوقت».
يمكن للرياضة منح الشعوب شعوراً قوياً بالانتماء للجماعة الوطنية، وقوة لتوطيد الروابط وتعزيز التضامن بين الأفراد، والشعور العميق بالانتماء الوطني... وعلى الصعيد العام، يمكن للرياضة أن تداوي أمراض الشعوب الذين فرقتهم السياسة، يمكنها تقريب الناس وتذويب فوارقهم وطي المسافات بين الأمم والثقافات، وإضفاء التعايش، وتجاوز ثقافات التقسيم، ونشر قيم التعاون والتآخي بين الناس، وأن يتعلموا كيف يتعارفون، ويأتلفون، وكيف يشد بعضهم أزر بعض، ويمكنها أن توقظ العالم إلى القوة الكامنة فيه نحو تجاوز حدود الكراهية والعنف وتوقه نحو التواصل، وشغفه بالجمال.
هي مناسبة عظيمة ينصهر العالم خلالها في تكوينات ثقافية ملهمة، تطورت عبر الزمن، وتجاوزت الحدود الأنانية والانفعالية، لتصل إلى وحدة ثقافية بين الشعوب تمكنت من اختصار المسافات بين المجتمع الإنساني، وكأنهم يعيشون في بيت واحد.
لقد أعطى اللاعبون السعوديون لأبناء بلدهم دفقاً من الروح الوطنية، وشعوراً بقوة الجماعة، وتجذر الانتماء، ورسوخ الهوية، وصلابة الإيمان بالمستقبل، وتحقيق الحلم.