حول الفلسفة والشرق
في كتابه «بنية العقل العربي»، ناقش المفكر الراحل، محمد عابد الجابري تطور الفكر العربي، وحقّبه إلى ثلاث مراحل، هي الغنوص والبيان والبرهان. ومن وجهة نظره فإن البرهان مثل أوج نضج الفكر العربي، وعبرت عنه كتابات ابن رشد، التي هي نتاج انفتاحه على الفلسفة والتراث الإغريفي. وما قبل ابن رشد، من نتاج أدبي وفكري، يندرج في خانة الغنوص والبرهان.
بالنسبة للجابري، لا توجد فلسفة خارج إطار البنيوية، التي عبرت عنها فلسفة أرسطو وأرخميدس وأفلاطون وسقراط وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين برزوا أثناء توهج الحضارة الإغريقية. والمعنى هذا ينفي عن الشرق كله الانتماء للفلسفة. وذلك مع تقديرنا للجهد العلمي للمفكر الجابري، حيث يحمل شكلاً من أشكال التعسف والانحياز. فاليونانيون ربطوا الفلسفة بالرياضيات، بشكل خاص وببقية العلوم والشرق هو مصدر علوم الجبر والرياضيات والفيزياء والكيمياء.
وإذا كانت الفلسفة من وجهة نظر أرسطو تهتم بالدال والمدلول عليه، وبالربط والتفكيك والتحليل، فهل يمكن نفي هذه الصفات عن الفكر الشرقي، سواء في الهند أو الصين، التي بزغت قبل حضور الفلسفة اليونانية. ولما كان العلم هو حصيلة تراكم تاريخي وفعل إنساني، فهل يمكن القول إن الفلسفة الإغريقية هي قطع مطلق مع الماضي، وإنها برزت من فراغ.
برزت حضارة العرب قبل انفتاح الغرب المعاصر على علوم الأولين بنحو سبعمائة عام، وقد ارتبط فكر الغرب بعصر الأنوار الأوروبي. وخلال سباته، برزت أسماء لامعة لعلماء عرب، كالفارابي وابن النفيس والرازي وابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون وإخوان الصفا وآخرين، وجميعهم وضعوا لبنات راسخة في التطور العلمي، واعتمدوا منهج البحث العلمي والتفكيك والتحليل والمقارنة والمفاضلة.
لقد انطلقت كتابات الراحل الجابري من مركزية أوروبية، جعلت من الفكر الأوروبي مسطرة لقراءة الفكر العربي، وتحقيبه إلى المراحل التي أشرنا لها. والتحقيب من وجهة نظرنا، هو انحياز، لأن العصور جميعها حملت التقسيمات الثلاثة التي أشار لها الجابري، فهناك دائماً من وصفهم بالغنوصيين، وهناك من اعتمد «البيان»، وآخرون اعتمدوا التفكيك والتحليل، وتمسكوا بالأطر الفلسفية، منطلقين من مقدمات وشروح وتحليل ونتائج، وهي عناصر أساسية لما تم وصفه ب «البرهان». وهناك في قديم فكر العرب ما يشير إلى أنك لا تستطيع أن تعوم في مياه النهر ذاتها مرتين.
نميز في هذا السياق بين النقل والإضافة، وبين ماهية الفكر والإبداع فيه. ونجيز لأنفسنا القول بأن انفتاح العرب على الفلسفة هو أمر واقع لا جدال فيه. فقد ترجمت مئات الكتب الفلسفية من اللغات الأجنبية إلى العربية. ولا يكاد يوجد بيننا مثقف لم يسمع بماركيز وجرامشي وماركس وهيغل وسبنسر، والقائمة طويلة. وبالمثل هناك قراءات عميقة للتراث العربي، بمختلف حقبه. ولا تكاد مكتبة عربية تخلو من كتب الغزالي وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن سينا والكندي. لا يمكن عزل هذا الاهتمام عن الوعي بالفكر ودوره، وبإمكانية الإضافة عليه.
صحيح أن ظروف المواجهة العربية مع الاحتلالين العثماني والغربي، لم تتح فرصة لنشوء فلسفة عربية معاصرة. وربما يفسر ذلك أحد أسباب الأزمة العربية، لأن أي مشروع سياسي، لن يكون ناجحاً ما لم يسنده مشروع فكري، بمبنى فلسفي واضح.
لقد كان دور حركة اليقظة العربية، لحظة انبعاثها، هو دور الناقل للأفكار وليس الصانع لها. وكان الأبرز بين تلك الأفكار، فكر الحداثة، باعتبار مشروع الاستقلال عن الهيمنة العثمانية، في نسخته الأصلية مشروعاً حداثياً، يتطلع إلى تقرير المصير، وتشييد دولة الحق والقانون. وقد برزت في هذا السياق أسماء لامعة كفارس الشدياق وشبلي شميل، وفرح أنطون وناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، ولطفي السيد، وغيرهم...
دخل الفكر العربي عصر التنوير من غير بوصلة فكرية ولم يكن ذلك غريباً على تلك المرحلة، فلحظة المواجهة مع الأتراك لم تكن مستقلة، أو ذاتية، لكنها لحظة الانقضاض على السلطنة العثمانية، واقتسام ممتلكاتها بين المنتصرين في الحرب. لقد كانت لحظة توتر، خشينا أن نكون خارج دائرة الفعل إن لم نقتنصها، ونستثمر نتائجها لصالح قيام دولة عربية مستقلة في الجزء الشرقي من الوطن العربي. لحظة التوتر وتجاذباتها الدولية والإقليمية لم تتح للفكر العربي رفاهية الخلق والإبداع، وتأسيس فكر فلسفي خاص به. وكان البديل عن ذلك هو الاستعاضة بالنقل بدلاً عن الخلق. وهكذا فإن تخلف الشرق عن الفلسفة وضمنه نحن العرب كان لأسباب تاريخية وعوامل موضوعية.