قلوب لا تعرف الغدر
يقال: الناس كالكتب..
فكتاب غلافه جميل يغري الناظرين لكن محتواه عقيم..
وكتاب غلافه بسيط لا يقترب منه الكثير لكن محتواه عظيم..
وكتاب ظاهره وباطنه جميل، غلافه منمق، وفيه علم مفيد.
وصديقي «ممدوح» من هؤلاء الذين ظاهرهم وباطنهم واحد.
في أول لقاء لي به كنتُ أنتظر في مكتب مدير الإدارة وإذا به يدخل علينا يمشي بهدوء مشي الواثق من نفسه، عيناه سوداوتان، واسعتان تشعان بالسلام، وغترته ثابتة كأنها ألصقت بالغراء، وابتسامته مشرقة، يرحب بالجميع كأنهم أصدقاء تربطه بهم عشرة طويلة.
شاء الله أن نعمل في مكتب واحد، فتعرفت عليه عن قرب.
كان كريمًا لا يبخل بمال ولا جهد في مساعدة الآخرين، يقبل بالقليل ويعطي الكثير وكأنه النهر المتدفق، مثقف يحب القراءة بل يعشقها، يقضي أكثر أوقاته في المطالعة، قرأ في الدين والفلسفة والأدب والتاريخ، ويشاركنا دائمًا بالجديد مما يقرأ، يبدأ حديثه ب: قرأت البارحة كتابًا يتحدث عن كذا وكذا، أو: قرأت رواية تتحدث عن كذا وكذا، ويحفظ أبيات شعرية كثيرة يستشهد بها في مواقف شتى.
لهذا عندما نقل لي أحد الزملاء وشايةً أنه تحدّث عني بما لا يليق، أسكتّهُ، ورفضت تصديق أن يصدر هذا الكلام من هذا الإنسان النقي.
بعدها بأيام تلقيت اتصاله بحب، ولم افاجأ، بل كنت أنتظر هذا الاتصال، فمنذ أن أصبحنا هو وأنا حديث الزملاء في العمل، وأنا استمع للهمس يدور حول علاقتنا، وما نُقل عنه من حديث جارح بحقي.
- مساء الخير.. فاضي؟. قال
- نعم. أجبته
- ما عندك طلعه؟
- لا.. جالس في البيت
- تحب نطلع؟
- لا
- عازمك على شاي في مكان هادئ
- إذا قهوة أجي
- القهوة لا تشرب في العصر
- متى تشربها؟
- الصباح مع عزف الطيور
- هههههه
- لماذا تضحك؟
- ههههههههههه
- دوم يااارب
- دام لك الخير
- طيب لنشرب الشاي
- خلاص غيرت رأيي.. لن أذهب معك
- بل ستذهب.. لماذا غيرت رأيك؟
- وصلتني رسالة الآن من جوال أمي تريد أن أشتري لها خبزًا.
- عندي فكرة.. في الطريق نشتري الخبز
- فكرة حلوة موافق
- جميل
- كم تحتاج لتجهز؟
- 10 دقائق
لم أكن في الواقع أحتاج لعشر دقائق فأنا جاهز للخروج، لكنني أحببت ألا يتعجّل في الطريق، ويسرع للوصول لبيتنا.
كان المقهى متميزاً بالفعل، هدوئ وخدمة راقية.
تحدثنا في أمور كثيرة قبل أن يرمقني بنظرة حزينه ويقول: إنني أعتذر منك وإن كنت لم أتحدّث بما نُقل.
قلت له: إذا لم يصحّ النّقل فلماذا تعتذر؟
أمسك بيدي وقال: أعتذر لأن الموضوع مؤلم، فإذا كان الكذب جرحني فكيف بك؟
وأنشد:
العَفوُ منك من اعتذاري أقرَبُ
والصفحُ عن زللي بحلمكَ أنسبُ
فنظرتُ في عينيه مباشرة وقلت: يا الله كم أنت إنسان راقي؟
أراد أن يتحدث لكن دموعه غلبته.
ففتحت ذراعيّ واحتضنته مؤكدًا له أنني لا أترك هذه الأشياء توجهني بل قلبي هو من يختار.
وأكملت: يا صديقي.. أنت استجابة لدعاء أمي: ”الله يعطيك خير الناس وخير ما فيهم، ويبعد عنك شر الناس وشر ما فيهم.. الله يسخّر لك أولاد الحلال، ويبعد عنك أولاد الحرام“.