العلاقة مع الجوار
اتسمت علاقة البلدان العربية، بجوارها الإقليمي، منذ سقوط الدولة العباسية، إلا فيما ندر، بالصراع، على الرغم مما بينها وبين هذه البلدان من علاقات وتفاعلات ثقافية وحضارية. وكان الموقع الاستراتيجي للمنطقة العربية، قد جعل منها محطة اتصال، بري وبحري، مع العالم، سبباً رئيسياً من أسباب استمرار هذا الصراع.
وفي حين كان من المتوقع، أن يكون للموقع الاستراتيجي للمنطقة، والتلاقح الثقافي الحضاري بين شعوبها، دور كبير في تعزير العلاقة بينها، فإنها اتسمت تاريخياً بالطرد والجذب. وعندما وهنت قوة الأمة، وبات التوازن في غير صالحها، شاركت دول الجوار، في الهجمة الاستعمارية، لتفتيت الوطن العربي، واقتطاع جزء كبير من أراضيه؛، بحيث يمكن القول بقليل من التحفظ، أن الجرف العربي، في جميع جهاته، لم يسلم من تلك الهجمة.
ولا شك في أن غياب دولة المؤسسات، بمفهومها الحديث، وضعف مفهوم المواطنة، ووجود امتدادات قومية ومذهبية، وتركيبة اجتماعية هشة ومعقدة، قد مكنت من تحقيق اختراقات في الداخل من قبل القوى الخارجية الطامعة، كما هو الحال الآن في بعض المناطق العربية.
لقد أكد الرصد التاريخي، أن التفاعل الإيجابي الثقافي والفكري، مع الحضارات المجاورة، لا يشكل بمفرده ضمانة للحيلولة دون نشوب صراع بينها، حال وجود خلل في توازن القوة. فالعرب الذين ربطتهم منذ القدم علاقات قوية بفارس؛ حيث كان طريق الحرير المتجه من الشرق إلى الغرب يتصل بالمشرق العربي، عبر الأراضي الفارسية. لكن ذلك لم يحل، دون اندلاع صراع طويل ومرير، مع الإمبراطورية الفارسية وبين مختلف الحضارات التي تعاقبت على العراق من سومرية وبابلية وكلدانية وعربية.
وبعد مجيء الإسلام، وانتصار العرب على الفرس في معركة القادسية ارتبطت الحضارتان بدين الإسلام، وبرزت أسماء لامعة في الحضارة العربية الإسلامية، من أصول فارسية، أسهمت في الدور الحضاري للأمة. لكن تضعضع دولة الخلافة، أعاد مشهد الصراع القديم، بين العرب والفرس، المشهد الذي كان قائماً قبل الفتح.
لقد بات هناك ما يقترب من القانون، في علاقة العرب مع بلدان الجوار، خلاصته أن صعود حضارة مجاورة، يستلزم بالضرورة إما استمرار الصراع بينهما، أو تداعي إحدى تلك الحضارات لصالح الأخرى.
واقع الحال، أن الأمر سيظل على حاله، حتى يدرك الجميع أن المصلحة تقتصي تحقيق التنسيق والتكامل، فيما بين هذه البلدان. فهذه البلدان، هي بعكس الأفراد، لا تختار جيرانها؛ إذ ليس في إمكانها أن تغير موقعها أو تجبر جيرانها على تغيير مواقعهم. ولذلك فلا مناص مع التعامل الإيجابي مع هذه الحقيقة، خاصة أن العلاقة مع هذه البلدان قديمة قدم التاريخ، وشهدت تفاعلاً ثقافياً وفكرياً وحضارياً، وبشكل خاص في الفترة التي أعقبت الفتح العربي لها.
وهكذا، فإن العلاقة مع دول الجوار، هي عامل قوة حين تكون متوازنة، وحين يؤخذ في الاعتبار المصالح المشتركة للمتجاورين. وهي عامل ضعف حين تطغى قوة على أخرى، وتسعى للهيمنة عليها، أو اقتطاع جزء من أراضيها. وعبر التاريخ، كانت الأراضي المجاورة دائماً وأبداً، الطريق الذي تعبر عليه جيوش الاحتلال، وهي أيضاً من أسباب تسهيل عمليات الاختراق. فلكي يتم لجيوش الغزاة احتلال أراضٍ لبلد ما، فإنها تحتاج إلى مواطئ قدم وإلى ممرات وطرق تعبر من خلالها إلى أراضي الدولة المستهدفة بالاحتلال. ومن الطبيعي أن يكون ذلك عن طريق البحر أو الأراضي المجاورة.
ومع ذلك، لا مناص من التسليم بأن حالة الجوار هي القدر الجغرافي الذي على الدول أن تعيش وتتعايش معه إلى الأبد. والحدود الإقليمية لدولة ما، هي بطبيعتها أطراف رقعتها السياسية، تمثل خطوط توازن القوة وجبهات التحام الضغوط السياسية على جانبيها، فيها تتحدد المداخل والنقط الاستراتيجية الحاسمة.
ففي الوطن العربي، شاءت ظروف تاريخية، أن تتركز الأقليات القومية حول الحدود مع دول الجوار. والمفارقة هنا هي أنه حين تكون الأمة منيعة ومحصنة يصبح وجود هذه المكونات، عامل إخصاب وإثراء وتنوع، أما حين تتمزق وحدة الأمة وتتداعى نهضتها وتسود النزعات القطرية، فإن هذا الوجود يصبح هدفاً لاختراق القوى الخارجية وعدوانها على البلاد، وعبئاً على استقرار وسلامة الوطن. كما هو الحال في عدد من الأقطار العربية. ولعل العمل على تنمية مصادر القوة العربية، وتعميم مبدأ المواطنة، القائم على المساواة والندية والتكافؤ بين الجميع، هو الذي يلجم وإلى حد كبير، نزعات التدخل الخارجي، في شؤون الأمة، ويحافظ على أمنها واستقرارها.