لماذا تراجعت شعارات العولمة؟
شعارات تطرح، ويتردد صداها في كل مكان، وتملأ الدنيا صخباً وضجيجاً، ثم ما تلبث أن تتراجع إلى الخلف، لينتهي بها المطاف إلى النسيان. ولا تزال الذاكرة تحتفظ بالكثير منها، لعل الأبرز بينها ما أشيع عن نهاية التاريخ، والعولمة، والأخيرة، تحولت من شعار إلى مؤسسات، كمنظمة التجارة العالمية «الجات» التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، لكنها لم تحمل الحماس ذاته، ولا الإيقاع الذي بدأت به. لماذا تراجعت شعارات العولمة، ولماذا ضعفت مؤسساتها، ذلك ما نحاول في هذا الحديث الإجابة عنه.
في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وتحديداً في التاسع من نوفمبر عام 1989، سقط حائط برلين، وبعد عامين من هذا التاريخ، في 26 ديسمبر عام 1991، أعلن رسمياً تفكك الاتحاد السوفييتي. وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش، قد وعد في خطاب النصر، الذي أعقب هزيمة الجيش العراقي وإجباره على الخروج من الكويت، أن يكون القرن الواحد والعشرون، أمريكياً، كما كان القرن العشرون.
وحينها صدر كتاب فوكوياما، نهاية التاريخ. وحظي بشهرة عالمية كبيرة، ليس بسبب ما احتواه، من تحليل علمي، وقراءة تاريخية دقيقة، للتحولات التي تداعت في حينه، بل لأنه جاء متماهياً مع رغبة أمريكية جامحة، في فرض سطوتها، وتفردها على العالم. وفي حينه، جاء الحديث عن حقبة جديدة، يتجاوز فيها العالم، المبادئ الناظمة للعلاقات الدولية، التي عبر عنها، ميثاق هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ضمنها حق الأمم في الاستقلال وتقرير المصير، واختيار نظمها السياسية.
العولمة، كسلوك وممارسة، لم تكن وليدة نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي، كما أشيع، بل هي نتاج استعار الهجمة الكولونيالية، على القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وعبر عنها اكتشاف القارتين الأمريكيتين، والطرق البحرية، كرأس الرجاء الصالح، وبناء قنوات تربط بين البحار، كقناة السويس، التي تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وقناة بنما، التي تربط القارتين الأمريكيتين، مع بعضهما، وقناة كيبل الألمانية، التي تربط بحر الشمال وبحر البلطيق، وقناة ما نشستر التي تربط مانشستر بخليج مرزي، وقناة بروكسل، التي تربط بين بروكسل، ونهر الشيلدت. وقد أدى حفر هذه القنوات، إلى تقصير المسافات، بين بلدان العالم، آلاف الكيلومترات. وقد سهل اكتشاف الطرق البحرية الجديدة، هجمة الجيوش والبضائع الغربية، على بلدان العالم الثالث، وتعطيل كثير من موانئها التاريخية، التي كانت تمثل قبل اكتشاف الطرق الجديدة، محطات انتقال في الملاحة الدولية.
صحيح أن الربع الأخير، من القرن العشرين، شهد حدوث تحولات جوهرية في العالم، شملت مختلف أوجه الحياة، في السياسة والتقانة والطب والاقتصاد وصناعة المعلومات، استحق بعضها بامتياز لقب الثورة... وكانت العولمة، بمفهومها المعاصر هي المعنى المجازي، لمجمل تلك التحولات، لكن العولمة، في أصلها لم تكن وليدة حقبة ما بعد التسعينيات. سمات العولمة الجديدة، هي الفوضى والانفلات من جهة، والدقة من جهة أخرى، وهي كما وصفها الكاتب، الحبيب الجنحاني، «دقة عجيبة يوظفها سدنة أممية رأس المال الجديدة، لتحقيق أهدافها في لمح البصر، أو تقنيات مذهلة تستعملها القيادة العسكرية لضرب مواقع محددة، ومن مسافات بعيدة، وفوضى الحياة اليومية، في أحياء الجيتو داخل المدن الأمريكية العملاقة، أو بضواحي باريس». أزالت الحدود وطوت المسافات، ونشرت عبر وسائل الاتصال قيما إنسانية. ولعل أهم ظواهر العولمة، تزامنها مع بروز مجموعة من الظواهر الحياتية، والمستجدات الفكرية، والتطورات التكنولوجية والعلمية، والتي تدفع باتجاه زيادة ترابط العالم وتقاربه. وربما أرادت القوة المتفردة على العالم، دمجه وتوحيده اقتصادياً وثقافياً.
بعد وصول المحافظين الجدد للحكم، بالولايات المتحدة، تعززت هذه النظرة، وبات احتلال أفغانستان والعراق، حقلي تجارب للتنظيرات الجديدة. لكن التطورات اللاحقة، أكدت استحالة تحقيقها، خاصة بعد الاكتساح الأسطوري للاقتصاد الصيني، وعودة روسيا بقوة للمسرح الدولي.
لم يعد من مصلحة أمريكا التشبث بشعاراتها السابقة، ولا حتى بالمؤسسات التي دشنتها، بعد أن تكشف لها أن الصين والهند وروسيا، دول قوية قادرة على استثمار تلك المؤسسات لصالحها، وأن فوائدها لم تعد حكراً للولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية واليابان.
جاءت أحداث التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، لتعيد البريق مرة أخرى، لشعارات الاستقلال، واحترام السيادة، وهي المبررات التي تطرحها الإدارة الأمريكية، في معرض معارضتها للتدخل الروسي، وهي التي تنكرت لها أثناء غزو أفغانستان والعراق. لقد باتت العولمة وشعاراتها سلعاً كاسدة، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وباتت السيادة والاستقلال حديث المرحلة.