العيسى والعمل من أجل رحمانية الدين!
لم يكن عملاً اعتباطياً اختيار رئيس رابطة العالم الإسلامي د. محمد العيسى، ليكون خطيب ”عرفة“ في موسم حج هذا العام، بل كان فعلاً ذا رسائل متعددة، يرادُ من خلالها التأكيد على أن الإسلام يتسع لمختلف معتنقيه من مذاهبهم المتنوعة، وأنه كأحد الأديان السماوية لا يكنّ ضغينة للآخر المختلف وإنما ينظر له بعين المودة والتواصل.
العيسى هنا لا يمثلُ شخصه - مع كامل الاحترام والتقدير - وإنما يشيرُ إلى القيم الإنسانية والأخلاقية التي يعمل على ترسيخها وتعميمها في مختلف أنشطته الثقافية والاجتماعية طوال سنوات خلت.
هذه القيم أساسها نبذ العنف والإرهاب والتكفير، والبعد عن كراهية المجتمعات التي لا تدين بدين المسلمين، مركزاً على المشتركات، ومعتبراً نقاط الاختلاف حقاً بشرياً طبيعياً بين الأجناس والأقوام التي تتعدد باختلاف ألسنتها وعقولها، حيث لا يمكن أن ينتظم بنو البشر في قالب جامدٍ واحد، لأن الاختلاف سنة كونية.
”لكي نكون، علينا أن نقرأ الآخر“، يقول الفيلسوف الفرنسي - البلغاري، تزفيتان تودوروف، مضيفاً ”إن الفهم هو تحويل الآخر إلى أنا أخرى. أي العثور على الذات في الآخر“.
إذن، وجود الذات وتحقق تدرجها في مراتب القوة والكمال والعلم، لا يمكن أن يحدث دون ”الغير“، وهذه ”الغيرية“ التي يتحسس منها الكثيرون ويودون نفيها وقمعها، هي جزء من الأنا، وبترها يعني بترٌ للذات، وحكمٌ عليها بالنقصان.
القلق من الآخر أساسه الجهل به أولاً، والجهل بالأنا ثانياً، والغرور المركبُ ثالثاً، وهي أمور تمتزج بقصرِ النظر، والريبة، والشك، وتأتي خطابات دينية وعنصرية لتغذيها، فتحول النظرة السلبية هذه إلى موقف مؤدلج، وكأنه مؤسس على نظرية عقدية متماسكة ورصينة، فيما هي مجرد مخاوف وتجارب تاريخية غير ناضجة، لأنها ابتعدت عن النظرة العقلانية وركنت للغرائزية.
منذ سنواتٍ خلت وأنا أرقبُ المشروعات التي يقوم بها د. محمد العيسى، والخطوات الجريئة التي أقدم عليها، سواء في انفتاحه على المذاهب الإسلامية المختلفة، وقوله الصريح برفض تكفير أي طائفة من المسلمين، أو صلاته بالزعامات الروحية للأديان السماوية الأخرى، فضلاً عن احترامه للإنسان بوصفه كائناً يستحق الاحترام والعيش بغض النظر عما إذا كان مؤمناً أو غير مؤمن، فالاعتقاد مسألة شخصية ليس من حق أي إنسان أن يتدخل فيها.
”ليس من حق أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية، لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر؛ فكل الحقوق والامتيازات التي تخص هذا الشخص من حيث هو إنسان أو من حيث هو مواطن من اللازم أن تكون محفوظة له دون أن تنتهك“، يقول الفيلسوف السياسي الإنجليزي جون لوك، مضيفاً ”ذلك أن الحقوق والامتيازات لا علاقة لها بالدين، ومن ثم يجب ألا يلحق هذا الشخص أي عنف أو ضرر“.
أنسنة الخطاب الديني، هو ما سعى له الشيخ محمد العيسى في حديثه يوم ”عرفة“، حينما قال: ”الإسلام روح جامعة، يشمل بخيره الإنسانية جمعاء“، ساعياً لأن يمنع احتكار ”الرحمانية“ لفئة دون أخرى، وراغباً في انتزاع عناصر التفجر من الخطاب الإسلاموي الذي يروج له عدد من دعاة الكراهية، مؤكداً على أنه ”من قيم الإسلام البعد عن كل ما يؤدي إلى التنافر والبغضاء والفرقة، وأن يسود تعاملاتنا التواد والتراحم“.
الخطوات التي بدأها العيسى يجب أن تستمر، إلا أنه ومهما كان لديه من قوة وعلم وإصرار، فإن أنسنة الخطاب الديني هي مسؤولة جماعية، وجهدٌ مؤسسي، يجب أن تنهض به ثلة من المختصين سواء في الفقه أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو القانون أو الأدب.. وسواها من العلوم التي على أربابها التآزر فيما بينهم، ليكون الدين قوة للخير، لا سلاح اقتتال وتنافر كما يروجُ المتطرفون!