عوامل الفشل من منظور الإمام الباقر (ع)
للفشل في الحياة الدنيا والخيبة في عالم الآخرة عوامل وبواعث ومسببات أشار إليها الإمام الباقر في أقواله وكلماته وحِكَمه القصيرة، ومنها: ما روي عنه أنه قال: «ثَلاثٌ قاصِماتُ الظَّهرِ: رَجُلٌ استَكثَرَ عَمَلَهُ، ونَسِيَ ذُنوبَهُ، وأُعجِبَ بِرَأيِهِ»[1] .
ومعنى «قاصِماتُ الظَّهرِ» ما يجعل الظهر غير مستقيم، مما يفقده القدرة على الحركة الطبيعية والسير بطريقة مستقيمة، وريما يفقده حتى القدرة على المشي مما يجعله حبيس الدار، وفي هذا إشارة مهمة إلى عوامل الفشل التي تعيق المرء عن تحقيق أهدافه في الحياة الدنيا، والخيبة والخسران في الآخرة.
وعوامل الفشل أو قاصمات الظهر كما عبّر عنها الإمام الباقر هي:
العامل الأول- استكثار العمل:
العامل الأول من عوامل الفشل في الدنيا: استكثار العمل، «ثَلاثٌ قاصِماتُ الظَّهرِ: رَجُلٌ استَكثَرَ عَمَلَهُ» فيكتفي به عن زيادته، ويتصور أن ما قام به من أعمال كافية في تحقيق النجاح، مما يجعل همته ضعيفة، وعزيمته هزيلة، بينما يتقدم أصحاب الهمة العالية والعزيمة القوية والعمل المتواصل.
وكذا الحال بالنسبة للآخرة، فمن يستكثر عمله لا يسعى لزيادة أعماله الصالحة، ولا يستزيد من الزاد الذي يحتاجه لآخرته، مما يصيبه بالخيبة والخسران في يوم هو أحوج ما يكون فيه إلى أي حسنة أو عمل صالح أو فعل خير.
والمطلوب من المؤمن أن يكون ذا همة عالية، وعمل متواصل، وسعي مستمر للتزود بالأعمال الصالحة كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[2] .
وأما استكثار العمل وإن كان صحيحاً فيشكل سدّاً مانعاً عن الوصول إلى التكامل والسمو والرفعة؛ فمن يستكثر عمله يقنع بما وصل إليه، فلا يسعى نحو مزيد من العمل، ولا يطمح نحو مزيد من النجاح والتقدم، فيبقى جامداً في مكانه، ومتكلساً في أفكاره فيفشل في نهاية الأمر، ولذا روي عن رسول الله ﷺ: «لا تَستَكثِروا الخَيرَ وإن كَثُرَ في أعيُنِكُم»[3] .
وعلى المؤمن ألا يستعظم عمله وإن كان كثيراً، وأن يستقله مهما عمل، لأن ذلك يكون محفزاً لزيادته، والديمومة عليه، وعدم التوقف عند حد معين.
العامل الثاني- نسيان الذنوب:
العامل الثاني من عوامل الفشل والخيبة: نسيان الذنوب، لما ورد عن الإمام الباقر أنه قال: «ثَلاثٌ قاصِماتُ الظَّهرِ: ... ونَسِيَ ذُنوبَهُ» فنسيان الذنوب يؤدي إلى تكرارها، واستسهال الإقدام عليها، وعدم الخوف من اقترافها، ولذا روي عن الإمام الباقر أنه قال: «لا مُصيبَةَ كاستِهانَتِكَ بالذنبِ ورِضاكَ بالحالةِ التي أنتَ علَيها»[4] . وعنه قال: «لا تَستَصغِرَنَّ سَيّئةً تَعمَلُ بها، فإنّكَ تَراها حيثُ تَسُوؤكَ»[5] .
ونسيان الذنوب هو القاصم الثاني للظهر ويأتي بعد القاصم الأول الذي هو استكثار العمل؛ فمن يرى أن أعماله كثيرة، وحسناته فائضة يدفعه ذلك لنسيان ذنوبه اعتماداً على كثرة أعماله!
وينسى أمثال هؤلاء أنه لا يستطيع القطع بقبول أعماله، فقد تقبل وقد لا تقبل، ولذا على الإنسان أن يتعامل مع أعماله مهما كثرت بمبدأ الرجاء والخوف، وأن يستمر في زيادة أعماله بعد التوبة عن كل ذنب اقترفه أو معصية ارتكبها.
وباب التوبة مفتوح للتائبين، وعلى المؤمن الاستفادة من هذه الفرصة للتراجع عن ذنوبه حتى لا يسودّ قلبه بالمعاصي، فقد روي عن الإمام الباقر : «ما مِن عَبدٍ إلّا وفي قَلبِهِ نُكتَةٌ بَيضاءُ، فإذا أذنَبَ ذنباً خَرَجَ في النُّكتةِ نُكتةٌ سَوْداءُ، فإن تابَ ذَهَبَ ذلكَ السَّوادُ، وإن تَمادى في الذُّنوبِ زادَ ذلكَ السَّوادُ حتّى يُغَطِّيَ البَياضَ، فإذا [تَ] غَطَّى البياضُ لَم يَرجِعْ صاحِبُهُ إلى خيرٍ أبداً، وهو قولُاللَّهِ عزّ وجلّ ﴿ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾[6] »[7] .
والذنوب تحرم صاحبها من الخير والرزق، لما روي عن الإمام الباقر : «إنّ العَبدَ لَيُذنِبُ الذنبَ فَيُزوى عَنهُ الرِّزقُ»[8] .
وعلى المؤمن ألا ينسى ذنوبه مهما قلّت أو صغرت حتى يكون ذلك محفزاً له على التوبة، وزيادة العمل حتى يربح الدنيا والآخرة، لما روي عن الإمام الباقر : «اتَّقُوا المُحَقَّراتِ مِن الذُّنوبِ فَإنَّ لَها طالِباً»[9] .
والأفضل من ذلك ألا يرتكب المؤمن الذنوب أصلاً، وأن يحتمي منها كما يحتمي من الطعام الفاسد، لما روي عن الإمام الباقر : «عَجَباً لِمَن يَحتَمي مِن الطَّعامِ مَخافَةَ الداءِ كيفَ لا يَحتَمِي مِنَ الذُّنوبِ مَخافةَ النارِ؟!»[10] .
والذنوب كلها شديدة، وعلى المرء ألا يتهاون بها، أو يستسهل اقترافها، وخصوصاً الذنوب والمعاصي التي ينبت عليها اللحم والدم كالأكل من الطعام الحرام، لما روي عن الإمام الباقر : «الذُّنوبُ كُلُّها شَديدةٌ وأشَدُّها ما نَبَتَ عَليهِ اللَّحمُ والدمُ»[11] .
العامل الثالث- الإعجاب بالرأي:
العامل الثالث من عوامل الفشل والخيبة التي أشار إليها الإمام : الإعجاب بالرأي، وهو استعظام الإنسان لرأيه، واستحقار آراء الآخرين والاستخفاف بأقوالهم.
والنتيجة أن من يعجب برأيه يفشل لأنه مهما أوتي الإنسان من علم وفهم يبقى عاجزاً عن معرفة كل شيء، وعن رؤية الأشياء من جميع الزوايا والأبعاد، فيحجب عن نفسه الاستفادة من آراء الآخرين ورؤيتهم للأشياء من زواياها المختلفة، ومن أفكارهم السديدة؛ ولذا ورد عن الإمام عليّ أنه قال: «الإعجابُ يَمنَعُ الازدِيادَ»[12] ، فالمعجب بنفسه لا يصغي لرأي أحد، ولا يقبل بنصيحة أحد، ولا يستمع لكلام أحد، فيحرم نفسه من الاستفادة من آراء الآخرين وأفكارهم، ويكون مستبداً برأيه، وعاقبة ذلك الفشل في الدنيا والخيبة في الآخرة.
والإعجاب بالرأي يؤدي إلى عدم قدرة المعجب بنفسه على العمل مع الآخرين بروح الفريق الواحد، وهذا ما نلمسه في العمل التطوعي والواقع الاجتماعي؛ فالمعجب برأيه يصر على الأخذ برأيه في كل شيء، ولا يريد أن يستمع لآراء الآخرين ورؤاهم الأخرى، بينما العمل الإداري في المؤسسات التطوعية والخيرية والاجتماعية وكذا في اللجان الدينية والاجتماعية في إدارة المساجد والحسينيات وغيرها ينبغي أن يرتكز على رأي الأغلبية وليس على رأي الفرد الواحد؛ لما روي عن رسول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «أعلَمُ النّاسِ مَن جَمَعَ عِلمَ النّاسِ إلى عِلمِهِ»[13] .
ولذا من المهم للغاية أن يتعود الإنسان في العمل الديني والتطوعي والاجتماعي على العمل المشترك، والتكيف مع آراء الأغلبية، وليس الإصرار على رأيه الشخصي وإلا ينسحب من العمل وينعزل؛ لأن هذا يعبر عن رذيلة الإعجاب الزائد بالنفس!
وصورة أخرى من صور الإعجاب بالرأي أن يرى الإنسان نفسه أنه يفهم في كل شيء، ويفقه في كل شيء، ويعلم بكل شيء، وهذا هو عين الجهل؛ لأن الإنسان مهما أوتي من علم ومعرفة فهو يجهل أشياء أخرى وخصوصاً التي ليست من شأنه ولا تخصصه.
ولذا عبّر الإمام الباقر عن الإعجاب بالنفس بأنه من المربقات، إذ قال: «أمّا الثَّلاثُ المُوبِقاتُ: فَشُحٌّ مُطاعٌ، وهَوىً مُتَّبَعٌ، وإعجابُ المَرءِ بِنَفسِهِ»[14] .
والسبيل لمنع الاتصاف بهذه الرذيلة المانعة عن التقدم والنجاح هو أن يعرف الإنسان نفسه، لما روي عن الإمام الباقر : «سُدَّ سَبيلَ العُجبِ بِمَعرِفةِ النَّفسِ»[15] . لأن الإنسان بصير بحقيقة نفسه، وعليم بنواقصه ونقاط ضعفه، وإذا تأمل في ذاته، وراقب نفسه، وعرف بدقة شخصيته يمتنع عن الإعجاب بنفسه.
والخلاصة: حتى لا يفشل المرء في حياته الدنيوية ولا يخسر آخرته عليه اجتناب عوامل الفشل والخيبة وهي: استكثار العمل، ونسيان الذنوب، والإعجاب بالرأي، وأن يعمل عكس ذلك إذا ما أراد النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة؛ فيضاعف من عمله الصالح، ويتذكر ذنوبه ويتوب منها، ويستفيد من آراء أهل الحكمة والتجربة والعلم.