مدرسة تاروت الابتدائية.. معلم ومغنم... حدث وحديت ”14“
لعل مِن أَمتع وأسطع الذكريات المُتزامنة في مَرحلة الطفولة المبكرة السعيدة، تلك السنوات البِكر الخلَّابة الجذَّابة، التي قَضَّاها التلميذ في بيته الثاني، المدرسة النظامية… حيث يَحظى بالمزيد مِن آفاق الحرية؛ ويَندى بكفلين مِن حَماسة التعلم وجِدية الاهتمام؛ ويَنال إِشباع حَاجَانه النفسية، بمُتعة اللعب، والمشاركات الاجتماعية… ويَتعرف مُصادفة، إِلى رِفاق المدرسة، مِن بين صُفوف أَنداده، وفُلول نُظرائه؛ ويكَسب رَصيدًا وافِرًا مِن أَصدقاء الطفولة؛ ومُتابعة برنامج تربوي يومي شَائق، حَافل، برفقة جُموع الأَنداد المُتحابين، ومَعية نُخبة مُعتبرة مُختارة مِن المعلمين الأَكفاء، وقد تجمعوا، وتأَهَّبوا، وشمَّروا عن سَواعد جِدِّهم، للعمل الجماعي المُنظم المُثمر، برُوح الفريق الواحد، في بيئةٍ حَاضنةٍ مُربِّيةٍ، مُتعددة الأَنشطة، ومُتنوعة الأَهداف… وقد وَفَد إِليها المعلمون المُخلصون مِن مُختلف الدول العربية الشقيقة، طلبًا للرزق المقسوم، وإِحياءً لرسالة التعليم الشريفة؛ لتنصهر فَائق ورَائق مَساعِيهم التربوية الدؤوبة؛ وتذوب انسجامًا وتآلفًا، في جَوف بَوتقة الميدان التربوي التنويري أحلام الطفولة الوردية الواعدة، كمًا وكيفًا؛ وتتمازج أَطيافها تطابقًا وتماثلًا، مَع رَيع حَماسة عطاء الأَريحية الذاتية، ورَيعان إِقدام رِفد الاستعداد المِهني المُتوقد، المُتصدرين في دَوَاخِل نفوس المعلمين…!
هذا، ومِمَّا يُذكر ويُسطَّر مِن مَخزُون ومَكنُون وَحي الذاكرة الناطق النابض، صَوتًا، وصُورةً، وحِفظًا، أَنَّ المدرسة العامرة ذاتها، بْنِيت في بداية العقد الثامن مِن القرن الهجري المُنصرم، في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، بواسع رحمته... وأَظن أَنَّها لم تكن النسخة الوحيدة في المنطقة… وقد شُيِّدت على مساحة كبيرة، بمُخطط إنشائي حَديث، خارج أَسوار القلعة القديمة؛ يحتوى مَبناها - مِن الداخل، في زاوية متوسطة - على جناح الإِدارة، والصفوف الدراسية، وصَالة مُتعددة الأَغراض «مَسرح، ومِقصف، وقَاعة اختبارات كبيرة…» وخارج المبنى الرئيس، يوجد ملعبان رياضيان، أَكبرهما لكرة القدم، والآخر للكرة الطائرة، ودَورات المياه، في الزاوية الشمالية، تليها على اليمين المَراجيح، والأحواض الزراعية النموذجية، قُرب وسط السور الخلفي الشمالي… ومما أَتذكره واستظهره جيدًا - في الصف الأول الابتدائي - أَنَّه في أَول سنة الافتتاح الميمون، لم تكن هُناك مَقاعد خشبية، بل فُرِشت الفصول ”بالمَدِيْد“ حَصير يُصنع مَحليًا.
وفي مَخزون الذاكرة النابض أَيضًا، عدد وافر مِن المرافق والأَنشطة المُتعددة المُمتعة، التي كانت تُمارَس في المدرسة، ومِن بينها: مُتعة حُضور وقت الطابور الصباحي الجاذِب، في فِناء الساحة الكبيرة الرئيسة، أَمام الرُّواق الخلفي للمبنى… والمُلفت للانتباه أَنَّه بعد انتهاء مُقدمات الطابور، يسير الطلاب، إلى فصولهم في صُفوف مُنتظمة مُتراصة، على إيقاع قَرع طُبول وأَبواق الفرقة الكشفية، وقد اصطفت، بأَزيائها الكشفية الرسمية أَمام الطابور، شاهِرةً أدوات العزف الجماعي النحاسية، المُتعددة الأَحجام، بأسلوب تَقليدي، وإِخراج مُتقن رَائع، وإِيقاعات أَدائية ثابتة، تبعث على دوافع الهِمة؛ وتحفَّز بوادر النشاط؛ وتذكِّي بَواعث الحماسة…!
وهنالك، لم تنته مُفردات سَرد مُسلسل الحديث الماتع عن حقيبة الأنشطة اللامنهجية ومُلحقاتها... وهُناك في الزاوية اليُمنى مِن واجهة المبنى الرئيس، تقبع قاعة المسرح الواسعة؛ وتمتاز بتجهيزات مِرقاة خشبة المسرح، والكَواليس، ومقاعد الضيوف، والستارة، وسقف مُعلق، يماثل أَسقف الديكورات الحديثة. والجدير بالذكر والإشادة، أَنَّ فعاليات المسرح السنوي الختامي تتم في مُناخ تربوي سَاخن، لطالما انتظرته أَفئدة أَولياء الأُمور الأَوفياء، بترقب شائق، واهتمام بالغ؛ حيث نادرًا مَا يتخلف عن حُضورها أَحدٌ منهم. وعَلاوة على حَقيبة تلك الأَنشطة التربوية الحُبلى، وسَلة الفعاليات المُقدمة المُعلنة، تُعنى إدارة المدرسة وقتئذٍ، بالأَنشطة التثقيفية اللاصفية، إِذ بين الفَينة والأُخرى، يضطلع القسم التثقيفي بشركة أرمكو بعرض أفلام تثقيفية توعوية «في الصحة، والبيئة، والأسرة…» في ساحة المدرسة، في الفترة بعد صلاة العشاء، يحضرها عادة، جَمع مِن طُلاب المدرسة… والملاحظة الأَكثر إِثارة وإِفادة، هو أَنَّ أَحد ”فَرَّاشِي“ المدرسة شخص مُتعلم، يُجيد القراء والكتابة، يقوم بمهمة دَوام مَسائي إضافي، مُتجِّولًا ما بين البيوت، على دراجته الهوائية، تراه مُتأَبطًا سِجل غياب طلاب المدرسة اليومي، مَارًا، ببيوت الطلاب الغائبين في صباح ذلك اليوم؛ ليدق الأَبواب؛ ويسجِّل مَعلومات دقيقة مُوثقة، عن سبب غياب الطالب، وعادة ما تُقدِّم الإِفادة أم الطالب المُتغيب، بكل شفافية، وأَريحية، وأَمانة؛ ليطَّلع مُدير المدرسة عينُه مُباشرة، على أسباب الغياب، في صباح اليوم التالي… ولا يَكاد ينجو، ولا يفلت عادة، صَاحب الغياب غير المُبرَّر مِن أَخذ نصيبه المُستحق مِن عِقاب ”فَلَقَة المدير“ … إِذ تُعد آنذاك، الدواء الناجح الناجع؛ لعدم مُحاولة تكرار خطأ الإِهمال المُرتكب…!
هذا، وعادة ما يُلفت نظر الزائر المُتجول في مَمرات المدرسة الداخلية الجميلة الأَنيقة؛ وقد زْينت جُدرانها ببعض الصحف الحائطية، ولوحات توضيحية مَنهجية مُلونة، مِن إعداد الطلاب أَنفسهم، ومُستوى النظافة يُشاهَد مَاثلًا مُشِعًّا، في كل رُكن وزَاوية، داخلها وخارجها، أَنَّى طاف الزائر في مَرافقها!
إِضافة إِلى مَا تقدم ذكره مِن إدارة ظافرة ناجحة، وإِشراف دقيق، مْتتبع لمَهام وفَعاليات اليوم الدراسي، حِذوَ القُذَّة بالقُذة… يتربع على قِمة هَرم الهيكل التنظيمي، وسَنام المنحنى الإِشرافي الشامل المُبرمَج مدير المدرسة المُخلص المُتفاني، الأُستاذ: أَحمد بن الشيخ حسين الجار، حفظه الله ورعاه، وضَاعف له الأَجر والثواب... ولعلي، بحمد الله وتوفيقه، وفقت وقفة الشاهد؛ واستوفيت فُرصة المُتحدث المُتواضع، عن مُجريات بعضٍ مِن جَوانب تلك الحِقبة المُنصرمة؛ ولعلي أَصبت دِقة التصويب في شِباك الهدف المَنشود، مُجتهدًا مُهتمًا، بحَماسة وجَسارة، باختيار عُنوان خاطرتي المتواضعة؛ ومُهدِيها طوعًا واشتياقًا، إِلى مقام مدرسة تاروت الابتدائية «الغالي» المَعلَم والمَغنَم؛ بتسليط سَاطع الضوء النافذ؛ وضَبط عَدسة بُورة مَشاهد تربوية مُعاشة، لواحدةٍ مِن أَيقونات التعليم في بِلادنا المِعطاء؛ وإِحدى مَراقي مَنابر تربوية، لطالما أَبرقت وأَرعدت، في ثنايا تلك الحقبة، بتباشير مُستقبلية واعدة لحاضِر ومستقبل أَجيال حَالمة قَادمة… وقد يكون صَيد - تلك الصور والمقاطع الخاطقة - غَائبة، أَو حَاضرة، في ناصية أَذهان الثلة المُحترمة مِن أَترابي وزملايي المعاصرين؛ والشاخِصين في ثنايا الذاكرة تألقًا وحَفاوةً؛ والشاهِدين عِيانًا وجِهارًا… تلك الحقبة الطفولية المُثيرة، بقضها وقضيضها؛ أَدام الله ظِلهم الوارف؛ وأطال في أَعمارهم المَديدة؛ ورَحِم الله مَن ضمته ذرات الثرى، رَحمة، ومَغفرة واسعتين، من لدن ربٍ، بَرٍ، رَحيمٍ… وبالله التوفيق والسداد… وأَسأله، جَلت قُدرته؛ وتعالت عَظمته أَنْ يَمُنَّ، ويُصِيبَ القارئ الكريم، رِفدًا وَافرًا مِن خزائن مَغفرتة الواسعة؛ ويَمنحه عَطاءً دَائمًا مِن مَنابع رِضاه المُنعِم؛ ويُنزل عليه شآبيب المغفرة و! لرحمة، إِنَّه سَميعٌ مُجيبٌ!