آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

حتى لو حَرق المعبد!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

جنون الشهرة قد يؤدي إلى تدمير الذات، وتدمير الآخرين. ف «الشهرة حِمْلٌ ثقيل» كما يقول فولتير، ومن أجل الشهرة يَطْغَى الخطابُ الشعبوي، ويتم إغراقنا بثقافة التفاهة، وتصنيع معايير هابطة للقيم الثقافية والاجتماعية، وتطفو على السطح الطفيليات التي تتصدى لوضع معايير السلوك القويم... ويتراجع للوراء مبدعو الأفكار الخلاقة، وصانعو المحتوى الرصين، والنماذج المشرفة في المجتمعات، ليحتل مكانهم نجوم شبكات التواصل، فقد «أتاحت وسائل التواصل لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا وكأنهم علماء»! كما قال أمبرتو إيكو.

في مسرحيته ذائعة الصيت: «انسَوْا هيروسترات»، يصور الكاتب المسرحي الروسي غريغوري غورين، أثر السعي المدمر نحو الشهرة... فهذه المسرحية الأسطورية تشتقُ أحداثَها من التاريخ اليوناني القديم، وتتحدث عن «هيروسترات» وهو تاجر فاشل عديم الشأن يعمل في أحد أسواق مدينة إيفيس الإغريقية، القرن الرابع قبل الميلاد «عام 356 قبل الميلاد»، وقد قاده فشله للبحث عن النجومية بطريقة خارج سياق العمل الجاد والمنتج... فماذا فعل؟

قام هذا الفاشل بإضرام النيران في معبد «أرتميدا» الشهير، المعروف بمعبد «أرتميس» أكبر معابد اليونان القديمة وأكثرها أهمية، وربما كان أكبر معبد في التاريخ، وأحد عجائب الدنيا السبع في زمنه، وتم القبض عليه، حيث حُكِمَ عليه بالإعدام، وكعقوبة لسعيه الجموح نحو الشهرة، تم إصدار تحريم لذكر اسمه بين الناس حتى يضيع ذكره ويصبح في طي النسيان، ورُمز إليه بكنية «المجنون»، حتى يُشار إليه عبر التاريخ: «المجنون الذي أحرق معبد أرتميدا».

لكن عبقرية هذه المسرحية لا تقف عند حدود! فالمؤلف رفض الوقوف عند التاجر الفاشل الذي أحرق المعبد ليصعد فوق لهيبه نحو المجد، فالمجتمع مسكون بالنخب الفاسدة التي لا تختلف كثيراً عن الفاعل... فعبر الزمان هناك من يتسلق أعمدة النور والنار لكي يلفت الانتباه إلى شخصه، وهناك من يصعد فوق الخرائب والحرائق لكي يبني مكانته، كما أن هناك من يركب على خطابات الكراهية والعدوانية وشيطنة الخصوم ليقيم حفلته فوقها... في هذه المسرحية كان الكثير يتبارون لكي يقتطفوا من وهج الشهرة الذي أشعله التاجر المجرم، حتى أصبح يتلاعب من داخل محبسه بأعلى مستويات الدولة مستغلاً ضعفهم أو رغبتهم للشهرة والمال.

في أحد مشاهد المسرحية، يصرخ المجرم «هيروسترات»: «دع المنطق جانباً يا رجل»! ثم يتساءل مستنكراً: «هل توجد عدالة فيما قام به الإغريق من هدم لطروادة وقتل جميع سكانها بسبب زوجة مسروقة؟ بأي منطق ستفسر هذه القسوة؟! والآن انظر: فبعد مرور الزمن قام هوميروس يتغنى بهم في «الإلياذة». كلا، لا أحتاج للمنطق بل أحتاج للقوة!». فمن زنزانته شخص أمراض المجتمع الذي عاش فيه وخبَرَه، وعرف شغفهم بالأضواء... فالبحث عن الشهرة والمال وباء فتاك.

كان «هيروسترات» أول من قام بكتابة مذكراته؛ فحتى في ذلك الزمن السحيق كان هناك من يعي تأثير الكلمة على الناس، ومن يتوسل بأدوات الثقافة للاستيلاء على الوعي العام وتزويره... وأوكل لوالد زوجته المطلقة، المرابي «كريسب»، توزيع تلك المذكرات بين العامة، فحولته تلك الكتابات من مجرم فوضوي إلى نجم يقتبس من أضوائه المشاهير... فانهالت عليه الثروة... وراح يُفسد نخب الدولة كحارس السجن وقاضي المحكمة، حتى تمكن من إغواء زوجة الحاكم التي زارته في السجن تطلب منه أن يروي للناس أنه أحرق المعبد من أجل هيامه في حبها... هذا الفعل قاده لتطويق الحاكم نفسه، وابتزازه ليداري خطيئة زوجته... ومع الزمن انقلبت كراهية الناس لـ «هيروسترات» إلى إعجاب، فالزمن كفيل بتذويب السدود الأخلاقية ما دام طوفان التفاهة يجتاحها دون كوابح... والسعي المحموم لإطفاء وهجه، جعله أكثر توهجاً وشهرة... إلى أن ينبري أحد القاضي «كليون» مخالفاً كل القوانين ويطعنه بالخنجر وينهي حياته... هل كان القاضي هو الآخر باحثاً عن تسجيل اسمه في سجل الخلود؟

«تُغطي الشهرة على العيوب، كالشمس غطى نورها على نارها»، هكذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي، ولكن عمر ذلك قصير، حيث لا يصح إلا الصحيح، أما الشهرة التي تقوم على أساس متين فيصفها «رهين المحبسين»، أبو العلاء المعري، بقوله: «وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم بإخفاء شمسٍ ضوؤها متكامل».