حسن البطران يوظف التراث والبيئة في’وأجري خلف خولة’
تضم مجموعة ”وأجري خلف خولة“ للكاتب السعودي حسن البطران؛ عددًا من القصص القصيرة جدًّا، التي لا تتعدى أطوَلُها بضعة أسطر، فهي تعتمد على التكثيف مع الاقتضاب، من خلال مفرداتٍ وتراكيب استلهم فيها البطران رُوح التراث العربي العريق، ابتداء من العنوان كعتبةٍ أولى من عتبات المجموعة؛ فاسم ”خولة“ عربيٌّ قديم معروف منذ العصر الجاهلي، وذكره طرفة بن العبد [ت: 60ق. ه] في مطلع معلقته حيث قال [الطويل]:
لِخَولةَ أطلالٌ بِبُرقةِ ثَهْمَدِ ***** تَلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ
كذلك أيضًا قسَّم البطران كتابه إلى ”خيام“؛ مستلهمًا البيئة العربية التراثية، حيث الخيمة والرَّبع والنَّخيل وغيرها، ثم ذكر رؤاه الخاصة، ومنها قوله: ”قد تفلت الحبال في أحايين قليلة ونادرة جدًّا، لكنها لا تؤدي إلى سقوط الخيمة“، وقوله: ”في ظروف متباينة؛ الخيمة ربما تتنازل عن عمود مركزها، لكنها لا تستغني عن بعض دعائمها الأخرى“؛ وهي كلمات تعبِّر عن فلسفة البطران التأملية في الحياة؛ فهو يرى أن الحياة لا تنتهي بسبب بعض العثرات التي يواجهها الإنسان؛ فهي عثرات طارئة سرعان ما تنجبر وتعود الأمور إلى طبيعتها والمُضِيِّ قُدُمًا في مسارها، كما يشير إلى ملمحٍ ذي طبيعة سياسية واجتماعية في آنٍ واحد، بكلامه عن ”عمود الخيمة“ الذي يرى البطران أنه عند اضطراب الأمور يمكن أن تتنازل عنه الخيمة، لكن لا يمكنها أن تتنازل عن دعائم أخرى؛ وهي الدعائم التي تمثل الجماعة المرؤوسة، في مقابل ”عمود المركز“ الذي يتحكم في ثبات الخيمة.. وقد يبدو أن البطران لا يقصد هذا المعنى السياسي في حدِّ ذاته، لكنه جاء منه في سياق أثر البيئة الجغرافية، التي لم تكن تنفصل أبدًا في عصر الخيمة عن البيئة السياسية.
وفي أول ”خيمة“ للكاتب يقول في أولى قصصها ”رسائل مائلة“: ”يمشي في طريق متعرح.. تتساقط حصيات من أعلى الجدار القديم وسط القرية“، وهنا يذكر البطران ”الطريق المتعرج، والحصى، والجدار القديم، والقرية“، وهي من مفردات البيئة الجغرافية التي يعيش فيها البطران، والتي يستحضر صورتها التراثية من خلال معاني هذه المفردات التي ذكرها.
وتأكيدًا على حبِّ البطران لعبق التراث يصف المدنيَّة الحديثة بمثالبها التي تَعِيبها، وبهذا الوصف يكشف عن عدم رضاه عن مظاهرها، وبالتالي يؤكد حبَّه للضِّدِّ، الذي يتمثل في البيئة القروية وما تَعنِيه من تمثيلٍ للبيئة العربية القديمة بنقائها وجمالها، يقول في قصة ”حركة“: ”صخبُ المدينة، إضاءات الطريق، يافطات المحلات، عوادم السيارات...“، ويتجلى أيضًا حنين البطران إلى القديم، في قوله في نهاية قصته ”هجران غير مشروع“: ”رحل إلى قبر أمِّه جائعًا“، وكأنَّ الكاتب يريد أن يوضح المزيد من مثالب المدنيَّة المعاصرة، التي ينفر منها ويلوذ بالماضي الذي يمثِّله قبر أمِّه.
ثم جعل البطران عنوان خيمته الثالثة ”قريبًا من نَخِيلي تتراقص الغزلان“؛ فذكر النخيل والغزلان وهي من رموز بيئته الجغرافية، ثم جعل عنوان القصة الثانية في هذه الخيمة ”سِباق غزلان“؛ فهو يصرُّ على استلهام الماضي كلما سنحت له فرصة.
وفي قصَّته ”أرض حقيرة وكعب أحمر يرقص فوقها“ يلتقط البطران صورة من البيئة الجغرافية بقوله ”يؤدي واجبه كما تؤدي الرياح دورها في أغصان الأشجار الهاربة نحو السماء“، فيعبِّر بمفردات بيئته التي يحبُّها ”الرياح، أغصان الأشجار، السماء“، وهذه المفردات تمثِّل أركان البيئة الجغرافية في جزيرة العرب قديمًا، وما زالت حتى الآن تمثِّل أركان بقاعٍ كثيرةٍ منها، وقد حرص الكاتب على توضيح رمزية الصورة وتمثيلها للتراث، فجعل الأشجار هاربةً نحو السماء مباشرة، لا تَعُوقها حواجز المدنيَّة الحديثة من دخان المصانع وعوادم السيارات وضجيج مكبِّرات الأصوات ونحوها.
ويمضي الكاتب حتى يصل إلى خيمته الخامسة فيجعل عنوانها ”لا أبيع بساطًا جلستُ بجانبه“، وهو عنوان يحمل ما يحمله من رمزيات البيئة وتراثها وأخلاقها؛ وهذه الرمزية التي يستلهم الكاتب بواسطتها تراث بيئته؛ تستمر معه حتى يصل إلى قصة ”هروب مُلتوٍ“ فيستمد منها في تشبيهاته؛ كقوله ”وإن هطلتْ كمُزنٍ حُبلى“، وكذلك يستلهم من صور بيئته الجغرافية في قوله ”قد احتواه كاحتواء كرب نخلةٍ لِجِذعِها، لكن حينما كبرت النخلة وانحنى جذعها وأصابت الشيخوخة رُكبتيه وأصبح لا يستطيع تسلُّق جذعها..“، فهو يصرُّ على استمرار علاقة الإنسان بالنخلة في جميع مراحل حياته، كما هي الحال في تلك البيئة الصحراوية التي يرتبط فيها الإنسان بالنخلة ارتباطًا وثيقًا، بجانب ما تساهم به هذه الصورة في استحضار التراث القديم في تلك البيئة.
ومن الصور التي استلهمها من البيئة أيضًا قوله في قصة ”رسالة من ليلٍ لا تحرسه نجوم“: ”حينما شاهدت نسرين كلابًا مسعورةً تمزِّق بطون أغنامٍ تنتظر رعيها في الصباح الباكر..“؛ فهذه الصورة من أركان البيئة الصحراوية التي تعتمد على الرعي والتنقل والترحال، ومِن تتبُّع استغراق الكاتب في رسم هذه الصور المستوحاة من البيئة العربية الجميلة وما يتعلق بها من تراثٍ عريق؛ يمكن أن نستنتج أنه يقصد بالكلاب المسعورة التي ذكرها في هذه الصورة الأخيرة؛ المدنيَّة ومَثالِبها التي ذكرها في صورةٍ سابقة بشكلٍ صريح.