الطير المبكر.. حدث وحديث ”12“
لعل مِمَّا حفِظته مِن صفحة قائمة الأمثال الإنجليزية العريقة في مُستهل المرحلة المتوسطة، المثل الشائع القائل: «الطير المُبكِّر يظفر بالتقاط الدودة»... ومِن حِينها، أَبقيت زِر ذلك المثل الأَثير المُثير في ”حالة تشغيلية“ مُستدامة، في مُستقر جَعبة هَادئة، بناصية ذهني؛ لأَنال لاحقًا، بمُستودع سِرِّه الكَامن المُستتِر قِسطًا مُماثلًا، مِن سَماحة دَيدَن فِطرة الطائر الجائع المبكر في استيقاظه المُستبشر، في أَنْ يحصل ”بشَطَارة“ ويُكافَأ بجَدَارة، بوجبة إِفطار دسمة شهية، تَشد مِن أزر قُوتِه المقسوم؛ وتُعزز مِن دَورة نشاطِ يومه الدائبة المنتظرة؛ لإتمام خطة مُفردات بَرنامجه السياحي اليومي، بأَكمل نَشاط، وأَجمل حَيوية، مُوازيتين لدافع حماسة صَحوة الاستيقاظ الحالم المِبكار؛ ومُتزامنتين مع عزيمة لياقة شُموخ، وسُموق، وتأَلق مَهارة التحليق، في مُتسع ساحة المِضمار، قبل أَنْ يختفي طعم ”طبق“ الدودة البهي الشهي، تحت ظلال غطاءٍ سميك ساتر، مِن شذرات مِن رُكام القش اليابس المُتناثرة الأَشلاء، هَربًا مِن دَبيب وَهَج أَشعة الشمس الحارق المارق؛ ويُمنى باستحقاق مَقسوم، بخيبة أَمل جَاره الناعس النائم، في قعر عتمة جَوف عُشه الدافئ، لحظة صُدور أَندى خيوط تباشير الفجر الباردة؛ ومُرور أَسخى ترانيم الصبح الرمادية الحالمة…!
ومِن المُدهش والطريف حقًا، أَنَّ مَوقف الطائر المبكر، صَوتًا وصْورةً وهَيئةً، بجُرأته المشهودة، ونَهضته الميمونة، وسِيرته الرائدة، يذكرني - ظاهرًا وباطنًا - بموقف مَسلكي مُشابه لاحِق، حَصل لي، عندما كنت أَدرس في جامعة ”نورث تكساس الأَمريكية“ في بداية عَقد التمانينيات مِن القرن المُنصرم، وقد انخرطت بحماسة عَارمة؛ ونعِمت بإِقدام جَم، في فعاليات ”كورس“ دراسي تخصصي بعنوان «فنيات التواصل الجماعي - Group Communication» المُعتمِد أَساسًا، على صَقل فنيات العصف الذهني؛ وتَعزِيز مَهارات التفكير الذهنية العليا؛ وتأصِيل أَساسيات أَدوار الحوار الفردية والجماعية؛ وتَفعِيل وتَطوِير المشاركات التواصلية الصفية؛ وبَلوَرة وتَنسِيق جُملة زَخَم الأَفكار الشائكة المطروحة؛ وإِيجاد أَنجع الحلول العملية المتاحة لها… ومما يُذكر ويُسطر، رسمًا، وتنويهًا، وإِشادةً؛ ويستأهل استحضارًا واستدعاءً، أَنَّ بيئة قاعة الدرس كانت جاذبة مُرتبة على شكل حَدوَة الفرس، حَيث يجلس شخص الأستاذ المحاضر في مُقدمة صَدرها، وعن يمينه وعن شماله، تجلس شخوص الطلاب والطالبات… والمُثير في مُقتضى بُنية خبر الكورس الدراسي عَينِه، أَنَّ مُنتهى الهمَّة، وبَالغ ذروة الحماسَة، كانتا مِن أشمل، وأَهم، وأَعم لحظات ”شغلي الشاغل“ حيث كنت أحرص على الحضور الدافع المبكر، قبل استهلال المحاضرة بوقتٍ كافٍ؛ ومِثل تلك المبادرة الذاتية، وبراعة أَنامل أيادي الدارسين، وحصافة أَذهانهم الجماعية، لها عَصا السبَق الملحوظ في مُهمة رحلة استكشاف واختراف، ومُتابعة سلسلة فِقرات مِنهاج الكورس، الشائق الرائق، على أَشدِّها، قلبًا وقالبًا!
ويجيء بيت القصيد الراهن الساخن، بأَمتع تباشير أَنغامه الصادحة، مْواتيًا مُوافِقًا، بعد مَسيرة ”جِدٍ وكَدٍ“ في نهاية الكورس، حَيث التقيت مَع زميلي الأمريكي في الحرم الجامعي صُدفةً، وقررنا الذهاب سَويًا إِلى مكتب الأستاذ المحاضر؛ لاستطلاع درجة الكورس النهائية، وقد علَّقها على باب مكتبه… وعندها كانت المفاجأة الصادمة… استطلع كل واحد مِنا درجته… فقد حصلت على درجة ختامية ”A“ أَما زميلي الأَمريكي فقد حصل على درجة ”C“ … عندئذٍ ثارت ثائرة زميلي، فطرق الباب بتهور مُتسرِّع؛ ليدخل إِلى مكتب الأستاذ؛ ويواجهه بشدة، برفض درجته المستحقة المُعلنة؛ وقد شهدت الموقف الحواري الثنائي المتأَزم، عن كثب… فبعد أَن هدَّأَ الأستاذ مِن ثورة الطالب المُمتعض المُعترض على درجته، قام سريعًا بإجراء مُقارنة مُوثقة بين أَداء مُشاركاتي الصفية المُقدمة، أثناء أَداء الفعاليات الصفية للكورس الدراسي المنصرم؛ ومَا أَبداه زميلي أَصالة، مِن غياب مُتكرر، وقِلة مُشاركة واهتمام… عندها اشتدت نوبة غضب زميلي، ورفع نبرة صوته بتهور مَلحوظٍ فاضحٍ؛ فما صدر وبدر مِن موقف المحاضر الحكيم، إِلّا أن نظر إِلى زميلي الغاضب مَليًا، رافعُا إِصبع سَبابته، بثِقَة ورَويَّة؛ وقال له مُعاتبًا: «عندي لك مُقترح خِتامي أخير… إنْ لم تكن مُوافقًا، أَو رَاضيًا عن درجتك التحصيلية، اخرج مِن مكتبي فورًا؛ وحَطِّم رأسك عند عُرض أَقرب حائط!»... وبالفعل، بعد أَن غادر مكتب الأستاذ قام بركل الحائط، لا شعوريًا، بعد أَن استفرغ واستنفذ ما في جَعبته مِن طاقة سلبية… ووقتئذٍ تلاشت ببطء فورة مُسلسل الغضب اللحظي؛ وخمدت هَبات الثورة المُتعالية؛ وعاد زميلي بخفي حُنين؛ لنذهب الإثنان معًا، إِلى أقرب بوفيه؛ ونحتسي أَكواب القهوة الساخنة، براحة واطمئنان؛ ونغلق، بإِبرام وإحكام، باب فورة الغضب الطارئة المُستنفرة!
هذا، وعلى أَثر خُطى خلفية ذلك المسلسل الدرامي المُعاش المُتصاعد، تَرابطًا وسِياقًا، وحَبكةً تذكرت، بصفاء ونقاء، لحظة تشغيل زِر مشهد الطير المبكر، الآنف الذكر، برشاقة نشر جَناحية الواسعين الوادعين، وخِفة مِشيته الهادئة الناعمة… الذي قاسمني، بسماحة وَادعة؛ ومنحني بطِيب خاطر سَمح، جزءًا وافيًا مِن، وافر وحَاضر، تجربته الهنية الشهية، المُقدمة بإهداء فائق؛ والمُهداة بمزاج رائق، على طبق مِن سَرَق، مُستطاب طعمه، مِن عَنان ذُروة هِمة الجِد السامقة؛ وأَوج حَبكة مَسيرة الأَريحية المَشهودَة؛ ومثلهما: فيض وافِر مِن هَامة أُهبة الاجتهاد المتأَنقة؛ ونبع زاخِر مِن ذَخيرة حَراك، نشط طَرِب، مِن أَندى خطوات المَواكِب المِتأَلقة؛ ونِتاج عِراك شَاطح راجح مِن طيات المُثابرة الناهضة؛ وأَسفاط مَلأَى مُتلاحقة، مِن مُبادرات ذاتية مُختارة، مِن نقاء أَجواء، أَريحية وشفافية، السعي الدؤوب؛ دُون الاعتماد المُتواكل على رَحمة الحظ الغامض المُنتظر؛ وبُزوغٍ مُحتملٍ لرأفة الانتظار القادم الصادم، ومُفاجأة الحَدَس المُبهم الصامت! … هذا، وبالله الغني المُنعم نستلهِم مَسيرة التوفيق، ومِنه نستمِد جُل يد العون؛ ومِن فائق عَطائه، وواسع فَضله، نستقِي كريم الرِّفد المَقسوم؛ ومِن مَناهل عِلمه، ويَنابيع حِلمه نجتنِي حُسن السداد المَحتوم...!