حول الانتخابات البرلمانية اللبنانية
أزمات كثيرة تعصف بلبنان، لعل أهمها الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها والتي كانت إحدى نتائجها تراجع قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار قرابة عشرين ضعفاً. ويرجع الكثير من المحللين أسباب هذه الأزمة إلى الصراعات المحتدمة بين مختلف القوى السياسية، والتي تسببت بتعطيل مسيرة الدولة. ضاعف منها انتشار وباء كورونا، وما تسبب به من ركود اقتصادي عالمي، وتضعضع علاقات لبنان بعدد من الدول العربية، التي كان لمواطنيها إسهام كبير، في انتعاش السياحة في البلاد.
وقد أضاف إلى هذه الأزمة، اهتزار الثقة لدى المواطنين اللبنانيين، بأداء أجهزة الدولة، والخلل المستفحل فيها، والفراغ الدستوري، الناتج عن عدم وجود حكومة، يتفق عليها جميع اللبنانيين. وكانت خاتمة الأثافي الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تسببت بحالة تضخم اقتصادي عالمي، غير مسبوق منذ عدة عقود، امتدت آثاره لمختلف زوايا الكرة الأرضية، ليضيف أعباء جدية على الاقتصاد اللبناني، الذي ينوء بأثقال تعجز جباله عن حملها.
لهذه الأسباب، يرى بعض اللبنانيين، في الانتخابات البرلمانية، التي بدأت في المغتربات، منذ أيام عدة، طوق نجاة، وبصيص ضوء للخروج من هذه الأزمة، ويأملون أن يرتقي وعي النخب اللبنانية إلى مستوى الأزمة، فيعملوا على تغليب مصلحة لبنان، وضمان أمنه واستقراره ونمائه.
واقع الحال، أن الانتخابات البرلمانية اللبنانية، على أهميتها، لن تكون مدخلاً صحيحاً لمعالجة الأزمة، إلا في حالة التعامل مع أسبابها الجوهرية، والتي ترقى إلى هياكل النظام ذاته، والمغيب لمبدأ التكافؤ والمساواة والمواطنة الكاملة، بين اللبنانيين. بمعنى آخر، أن الحل الصحيح للأزمة اللبنانية هو تحقيق إصلاح هيكلي جذري في شكل النظام، وتأسيس دولة عصرية.
لقد أدركت أغلبية اللبنانيين هذا الأمر، منذ عقود طويلة، لكن رسوخ البنيات الاجتماعية القديمة، حال دون تحقيق نقلة حقيقية تجاه تغيير هذا الواقع. وعندما طفح الكيل، وخرج اللبنانيون إلى الشوارع، حاملين شعار التغيير، حالت انتماءاتهم الجهوية دون تحقيق أي اختراق حقيقي من شأنه انتقال لبنان من حال إلى حال.
أزمة لبنان السياسية المستعصية، تعود إلى نهايات الحكم العثماني، حين بدأ التدخل الخارجي بكثافة في شؤونه الداخلية، وأخذت كل طائفة تتحلق حول واحدة من دول الخارج. ومنذ الاستقلال في منتصف الأربعينات من القرن المنصرم، نشأ نظام استمد حضوره من رعاية القوى الدولية التي تقف خلفه، ومن التوافقات الطائفية، بين النخب السياسية. وقد جرى تعريف ذلك مجازاً بالميثاق الوطني. وللأسف لم يكن للبنانيين علاقة مباشرة بصياغة هذه الهيكلية. فقد مثلت تسوية بين جملة من التجاذبات الدولية والإقليمية والمحلية، التي ارتبطت في الأساس بالتنافس الدولي على تركة الرجل المريض بالأستانة. وعبرت الصياغة الفرنسية للميثاق المذكور عن طبيعة التوافقات والتحالفات والصراعات بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. وأخذت في الاعتبار حقائق القوة ومصالح تلك القوى.
وهكذا استند النظام السياسي إلى بنية طائفية، أسهمت التطورات اللاحقة، ودور القوى الإقليمية والدولية، في تعزيزها. وقد تسبب ذلك بأن يشهد تاريخ لبنان المعاصر عدداً من الحروب الأهلية، كان الأبرز بينها الحرب الأهلية الأولى، عام 1958، والحرب الأهلية الثانية، عام 1975. وفي كلتا الحربين، لم تكن الأسباب لبنانية محضة، بل نتيجة تفاعل الأحداث فيه، مع تغيرات حادة في موازين القوى الدولية والإقليمية.
فالأولى في أحد أوجهها هي واحدة من تعابير الحرب الباردة بين القوى العظمى، وعبّر عنها مشروع الرئيس الأمريكي أيزنهاور لملء الفراغ، وقيام حلف بغداد. وفي وجهها الآخر، جسدت الصراع المحتدم آنذاك، بين التيارات القومية والتيارات المحافظة. أما الأخرى، فكان من أسبابها المعلنة الحضور الفلسطيني في لبنان، بعد مغادرة الأردن، وخشية بعض الأحزاب اليمينية، من حدوث خلل ديموغرافي، لمصلحة الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
والخلاصة، أن لبنان بين خيارين رئيسيين، إما الاستقلال السياسي الكامل، المعبّر عنه بالقدرة الذاتية على صناعة القرار المستقل، من دون تدخل قوى الجوار، والقوى الإقليمية والدولية، وذلك أمل معلق، لا تلوح عناصر تحققه بالأفق، وإما البقاء في حالة تأرجح بين فسحة قصيرة من الاستقرار، ما يلبث بعدها المتصارعون حتى يعودوا إلى حلبة التنافس.
الواقع الممكن، للخروج من الأزمة الراهنة، هو تحقيق توافقات بين دول الجوار، والقوى الإقليمية الفاعلة على أجندة سياسية، وتدعيمها يكون من نتائجها دعم استقرار لبنان، وتنشيط فعالياته السياحية والاقتصادية مجدداً. وذلك أمر ليس بالمستحيل، إن صدقت النوايا، وتحقق الحرص على أن يبقى للبنان ألقه وحضوره. نأمل من القلب أن تعود البهجة لقلوب جميع اللبنانيين.