نصوص مختزلة، تستفز القاريء وتقوده إلى عوالمها الغامضة وفضاءاتها الشاسعة
قراءة في مجموعة حسن البطران «أصغر من رجل بعوضة»
القصة القصيرة جداً في هذه المجموعة فنّ اختزالي تلتقطه عدسة مقعّرة على متلقيها أن يمتلك حساسية فائقة، وقرون استشعار بالغة الرهافة، وملكة تأويلية متّسعة الآفاق شاسعة الفضاء؛ فنحن أمام عوالم افتراضيّة مضغوطة في كبسولات دلاليّة حيناً ونصوصاً سرديّة وصفيّة قصيرة حيناً آخر.
ومن الواضح أن الكاتب قام بتصميم مجموعته وفق رؤيا ينطلق منها ويؤوب إليها، في هندسة سردية محكمة منذ العنوان الرئيس الذي اختاره لمجموعته، وكذلك العناوين والمساحات النصية وتوزيعها والشريط اللغوي ومقاساته المدروسة: فالتدرج والتنوّع وطرق الصياغة والتشكيل والفهرسة والتبويب كذلك، وعلى الرغم من قصر النصوص وكثرة العتبات التي استهل بها مجموعته ما بين مقدمات ومقتبسات وإهداء وتنويهات إلى ثراء الدلالة في هذه النصوص القصيرة كعبارة النِفّري المأثورة عن ضيق العبارة واتساع المعنى، فإنها تستلزم من المتلقي قراءة عميقة وتستدعي أفقاً تأويليّاً بعيد المرمى.
فأغلب النصوص فيها لا تزيد عن جملتين أو ثلاثة، وقليل منها يتجاوز السطور القليلة التي تستغرق نصف صفحة أو أقل، وتستلزم في توصيفها إلى تأكيد كلمة «جداً» توكيداً لفظياً عبر تكراره عدة مرات، فالعنوان «تبرير» مثلاً، وهو عنوان أول قصة في المجموعة ينطوي على معنى التقرير إثباتاً ونفياً وسخرية وتورية ورمزاً؛ أما التقرير المثبت فهو وصف القصة في المتن الحكائي المختزل، وصف يحمل في ذاته إنكاره؛ فنحن عادة نعلم أن التبرير تسويغ وتسبيب مشكوك فيه، يتضمن نفيه وعدم الرضا عنه، والسخرية ممن يسوقون العذر لتسويغ القبول: أما الحدث فهو يتضمن مرجعية غامضة وتفاصيل محذوفة، عليك أن تتنبأ بها؛ فضلاً عن أن الجملة التالية تنم عن فجوة واسعة تنطوي على أحداث غير مذكورة، على المتلقي أن يتنبأ بها ويفترض وجودها، ما يجعل عملية القراءة تأويلاً خاطئاً باستمرار وتعويماً للدلالة؛ وهو في الوقت ذاته يضع القصّة ضمن حزمة دلالية مكونة من ثلاثة نصوص، على أساس أنك - بوصفك متلقياً - ستستعين بها لتستحضر الدلالة الغائبة وتفتح أمامك منافذ للتأويل، فقصة «تبرير» تأتي ضمن ثلاثة نصوص «فلتر وعقدة عالية» أما «فلتر» فهي تتضمن جملتين تنطويان على ثنائية مفارقة «القفز من» و«القفز على» فالقصة كلها «أراد أن يقفز من السطح، فقفز على السطح» وكأننا أمام محاولة عبثية تتصل بما قبلها، فالرداء اتقاء البعوضة «تضخيم الحدث» والمبالغة في «الحفاوة» بصحب الشأن بما لا يقتضيه من فعل، والفلترة تعني التنقية، وهي تشير إلى إزالة الشوائب، وهنا تعرية للدلالة بتنظيفها من المبالغة والادّعاء، وهو قاسم مشترك في القصص الثلاث، فالقصة الثالثة «عقدة عالية» تصب في ذات الاتجاه «الإبعاد» و«الانفراط» ونصّها في جملتين «سبب ونتيجة «أبعد عنها فانتثرت حبات المسبحة» وهنا تعرية وتجريد كما في النصين السابقين: فالمسبحة رمز التقوى والتطهّر، وانتثار حباتها يعني زيف التعامل معها، التسبيح كان لغرض فلما انتفى هذا الغرض لم تعد هناك حاجة للتسبيح، تآزرت الدلالات الثلاث عبر الكشف عن المفارقة والغوص في باطن الأشياء وتعرية المواقف. ولعل في عبارته التمهيدية «ونبدأ بملاحقة البعوضة» وهي عبارة عميقة الدلالة مرتبطة بالعنوان الرئيس للمجموعة.
أما الحزمة الثانية التي تتكون من ثلاثة نصوص قصصية وفقا للمنهج الذي اختاره فهي ترتبط مع ما بعدها بأكثر من سبب وبمفتاح الدلالة في المجموعة، وهي «البعوضة» التي ترمز إلى معنيين «التحقير والإيذاء» وتحيل إلى مفهوم روحي ديني، «إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها» كما في الآية القرآنية الكريمة، «و لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء» كما ورد في الحديث الشريف، ففي قصة «نظرة إلى الماضي» «فتح كتابه، سقط مغشيا عليه» إشارة إلى عدمية الفائدة من الفعل؛ وبالرجوع إلى العنوان يمكن الاستنتاج أن هذا ديدنه حاضراً وماضياً، وأن ثمة أحداثاً مضمرة قادت إلى هذا الاستنتاج، وأن بقية أضلاع المثلث السردي الذي ينتظم هذه النصوص يفضي إلى هذا التصوًر، فقصة «فراغ» وقصة «قناع» تفضيان إلى هذه النتيجة. فالأرض المرويّة التي لم تنبت زرعاً والثوب الذي لا يستر عورة فيلجأ صاحبه لإقفال الباب في القصة تفضي إلى هذا المعنى» ارتدى ثوبا ليستر عورته، أغلق عليه الباب» فثلاثيّاته السردية في المجموعة تتآزر نصوصها لتفضي إلى دلالة تتبدى تجلّيّاتها في الطريقة التي يصوغ فيها بنيتها السردية المختزلة.
ثمة منحى آخر في بعض هذه الثلاثيات يطول فيه النص السّردي قليلًا فيتكون من جمل ثلاث، على نحو ما نرى في الثلاثية رقم «4» حيث تبدو المفارقة متعددة الأبعاد ففي «أشعة بها تقوّس» الهضبة المقوسة تعبير عن الضخامة الجوفاء، وأشعة إكس تكشف الفعل الفاضح، والتوائم غير المتماثلة إشارة إلى الفعل غير الشرعي، والشموع الحمراء في وضح الضوء المزيف المكشوف، وتجميع هذه المفارقات في نص سردي يخرج القصة من نطاقها الثنائي المحدود الدلالة إلى مفارقة متعددة الأطراف، قد نخطئ في فهمها ولكنها تظل قابلة للتأويل، ومثلها القصة الثانية والثالثة من هذا المثلث: «يسأل عن البعيد، والقريب منه أكثر احتياجاً، يظل في حالة غربة وهو يعيش داخل أسوارهم» فالمفارقة بين التي تجمع النقائض لا تقتصر على بعد واحد؛ بل تتخذ أبعاداً أخرى: نشدان البعيد والقريب أكثر حاجة، ثم الغربة الطاغية على الرغم من الوجود في حقل مؤنس، وهكذا تخضع معظم هذه النصوص القصيرة لمنطق المفارقة تتمايز وتتماثل، لقطات مختصرة تبدو غير متجانسة في بعض النصوص؛ ولكننا إذا أمعنا النظر فيها وحدّقنا في أعماقها اكتشفنا كثيراً من أسرارها.
أما النوع الثاني من القصص القصيرة جداً التي تتجاوز الجمل الثلاث فتأخذ في جانب منها منحىً فلسفياً وتبدو أقرب إلى تشكيل الرؤيا واستبطان الدواخل النفسيّة كما في قصته «تنافس نمو» حيث تبدو أقرب إلى القراءة التنويرية التي تستبطن الوعي وتغوص حتى تكاد تلامس جدران الّلاوعي وتسلك نهجاً فرويدياً في تفسير السلوك، فمن خلال سلوك الفتاة وحركاتها التي توازي فيها بين نمو الأشجار ونمو أعضائها الأنثوية قراءة فرويدية بالغة الطرافة والصراحة والجرأة، وقد اعتمد فيها تقنية أشبه بمنطق الدراسة العلمية والبحث السيكولوجي.
وفي قصته «رأس سكّين وغلاف كتاب» تحليق في آفاق التفكير وغوص في تلافيف الوعي وترميز للفعل محور السرد، فالقصة أشبه في بنيتها بالوردة ذات البتلات المتعددة التي ما إن تنشق عن أكمامها حتى يفوح عطرها، فرأس السكين وغلاف الكتاب بؤرة دلالية يتدفق عبرها المعنى؛ فما بين المعرفة أو الفكرة والتعبير عنها أشبه برأس السكين الذي يفض مغاليق الكتاب بما ينطوي عليه، فالتعبير عن الرأي يتم بالجهر بمكنونات الرؤى.
وفي قصته «دواء تحت أقدام» منزع وجدانيّ حميم يتضح منذ العنوان في تناص واضح مع الحديث الشريف «الجنة تحت أقدام الأمهات» والمتن مدخل للفهم والتفسير، فالجراح العميقة لا يشفيها إلا حنوّ الأمهات فجاء المشهد الوصفي السرديّ تمثيلا للموقف، فما أصيب به الجسد المغدور من جروح غائرة نجمت عن مفارقات المشهد الذي تجاوز القريب إلى البعيد، ولم يذعن لمنطق الدواء بل استجاب لمنطق الولاء.
نحن أمام ست عشرة قصة تتفاوت طولاً وتتناغم دلالة وتنسجم رؤية واستبصاراً، قراءة تتشابك فيها الرؤى والتأملات: الذاتية والموضوعية، تحفر في نخاع اللحظة وتستنبت في عمقها المعنى تحفر عميقاً تتحرّى الدلالة المستكنة التي تبدو محارة يجهد المتلقي للفوز بها وحيازتها واختراق صدفتها.