آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

إيقاع الحركة والتوتر والفعل فى الحزمة الثالثة من مجموعة «مارية وربع من الدائرة» للقاص السعودى حسن على البطران

شفاء أحمد مستريحى المصري اليوم

ينسج القاص حسن البطران من خلال مجموعته القصصية «مارية وربع من الدائرة» لوحة متكاملة لا تكفيها قراءة واحدة ضمن حزمها المتنوعة، ضمن مجموعة من الحزم التى تصل إلى عشر، بينها رابط الفكرة وإن بدت فى قوام مختلف لكنها تأتلف فى منطقة ما. ابتداء من النسق الثقافى، مرورا بالنسق الاجتماعى، وصولا إلى حالة من الحركة والتوتر، ومع الاستمرار تصدح الكلمات بالمعنى المؤتلف مع نسيج الحياة بصورة أو بأخرى، يصل بها القاص إلى الغاية دون تعقيد أو إغراب.

ففى كل قالب فكرة، وفى كل ومضة جوهر، وفى كنه الحكاية أسرار وكنوز، تحتاج من المتلقى أن يلج إلى عمق الفكرة حتى يدرك المقصود، فقراءة القصة القصيرة جدا أشبه بحالة الحفر التى تبدأ بحركة وتنتهى إلى حد الانغماس والتماهى، دون تحميل النص ما لا يحتمل.

تتميز القصة القصيرة جدا بوجود عنصر الحكائية، هذه السمة التى تندفع بين الجمل لتطور من الأحداث تتابعا، وتؤدى إلى صيرورتها واستقرارها، بمشاهد لا إسهاب فيها، تسهم فى بثّ روح الدينامية، بشكل متواز ومتتابع متعاقب.

ولعل الحركة التى يلمسها القارئ فى القصص القصيرة جدا تمتزج بالإيحاء والتوتر، والتداخل والتركيب، بطريقة تعتمد الفعل الميسّر لتسريعها ومنحها جزءا من الاختصار والإيجاز.

يعرض القاصّ «حسن البطران» مضامينه بنكهة خاصة، تتبلور فيها الانزياحات المتناسلة من قلب الحياة، دون إرباك للنص، الذى يتعاطى معه بسهولة ويسر، محافظا على القوام الكمىّ أولا، ثم ربط النتائج بمسبباتها، بفكرة مكثفة، ودرامية بارعة، ويترك لنا استنتاج الحبكة والتقاط المفارقة، وربط القصة بسيميائيتها مع الواقع باستقراره.

ثقافة وتراث وهوية ثالوث مرتبط لا يمكن الفصل بين عناصره، بدأها البطران بعنوان «شوكة» وانتهى بها ب «جديدا» وبينهما فيض من الإيحاء، نحو التطور والحركة وحالة التوتر التى تنمو وتتجدد، تاركا الخيار للمتلقى دون عبثية فى الانتقاء بل هى حالة من التسلسل النمائى المرسوم بين الخطرة والقصة.

تعاقبت العناوين فى الحزمة الثالثة من «شوكة» التى تشير إلى أن أول الطريق كبوة، ثم «خفة برائحة لبان» وما يحيطها من المساومة مرورا ب «جاذبية وتيار وهواء» واقترانها بالتغيير وصولا إلى «جديد» ومعرفة الطريق نحو الأفضل.

رسم القاصّ «حسن البطران» فى قصته الأولى حالة من التقهقر أمام ملذات الحياة، رغم أنها محكومة بالمحاولة، ففى إزاحة الشوك والمشى والتقاط السمكة مشقة، ومع الوصول إلى الغاية حصل التعثّر، وفشلت المحاولة، وتركت ندبا ووخزا نفسيا وجسديا وأيديولوجيا، سرعان ما يلتقط القارئ هذا التوتر والحركة والدينامية فى الشخصية المرسومة فى القصة.

«شوكة أخرى

أزاح الشوك عن طريقه..

مشى نحو الشاطئ فرأى سمكة ذات ألوان جاذبة،

مسكها.. أراد الرحيل بها، تعثر..

سقط على الأرض..

هربت السمكة، وأصابته شوكة فى قدمه.. نزف وعاد من

طريق غير طريقه..!».

يحاول البطران رسم صورة للمجتمع أو للأمة فى عدم تجاوز الأزمات مع أول عائق يواجهها، القضية ليست قضية فرد وجد سمكة ومضى، بل هى قضية أوطان تضيع وتسلب ما فيها من قيمة وحافز وطاقة، وتلازمه حالة من الألم الممثل بوخزة شوكة أودت لتغيير الطريق، لم تكن ثمة محاولة جديدة، أو مقاومة، وقد تكون تلك الفكرة المؤطرة بمعرفة الخلل ثم محاولة تغيير الخطة، كلها إشارات واردة فى هذه القصة.

ينتقل البطران بوعى معززا الفكرة بأخرى، فى باب «خفة برائحة لبان»، ومن البداية يشعر المتلقى بأنه أمام ثنائية من الحركة واللون فهل بينهما انسجام أم يلوذ بهما التوتر بعيدا عن التآزر؟.

«خفة برائحة لبان..!

حينما مسك القارورة،

ساومهم على فتحها..

حاصره من يصرم التمر ويبيع العنب.. اشتدّ عناده، وأحرق

جزءا من الخيمة..!

نظروا إليه وعلوك «اللبان» بين أسنانهم..!».

يستخدم القاص مصطلحا سبق أن وجدناه فى حزمته الثانية «قارورة» لكنّه وضعه فى سياق مختلف، تتفتق منه معانى القوة، لأنه يستحضر لحظة الصراع، صراع متفرع نحو السلطة والطبقات والذات، والصراع من أجل الوجود، لما أمسك القارورة حصل الجدل والمساومة، والمساومة تكون بين البائع والمشترى، طرفان كل منهما يريد الأفضل لنفسه، فمن فاز فى قصة البطران؟.

مرت عملية المساومة بمراحل أولاها: الجدال، ثم الحصار، والعناد والنكران، والحرق والخسارة، وأخيرا بنظرة ازدراء، قد خسر من أمسك القارورة وساوم، خسر من هدم الأرض طمعا، ومن طمع بالمال على حساب الفضيلة، ومن حول الريح الطيب إلى دخان.

يبدو أن القصة تحمل دلالات عميقة فى قضايا الإنسان، بتفاصيل سريعة الحركة والنماء وكثيرة التوتر.

ومع القصة الثالثة يحلّ السلام الداخلى قليلا، على الأقل فى القدرة على اتخاذ القرار، وفهم المحيط الذى يعيشه الإنسان.

«جاذبية وتيار وهواء

التحق بالسلك العسكرى، تدرّج فيه حتى منح رتبة عالية، نادى فى القطاع الذى يرأسه: من يجيد تسلق الجبال؟.

لم يجبه أحد..

تخلّى عن رتبته العسكرية، وبدأ فى دورات علم الرماية والسباحة وتجاهل تعلم تسلق الجبال..!».

بثلاث كلمات يبدأ ليدخل فى كنه القضية، تتوافق مع تسلسل الأحداث والانفعالات داخل حدود الحزمة، ولعلّ البطران يدخل القارئ فى جو من العلمية ولابد أن ندرك العلاقة المتشابكة بين هذه العناصر الثلاثة وظيفيا علميا لندركها دلاليا، والمعلوم أن الهواء ينجذب لكنه لا يقع على الأرض، وهذه الحركة نحو الأعلى تعمل على إحداث التوازن بين القوى، ومن جهة أخرى فإنّ التيار الهوائى ينتقل من الأماكن ذات الضغط المرتفع إلى المنخفض ولها أثر إيجابى على حياة الأحياء.

وما لا شك فيه أن تمظهرات هذه الدلالات واردة بوساطة المشهد الحركى الذى قدمه البطل، حيث التحق بسلك عسكرى، متدرجا فى الرتب حال الهواء الذى لم ينزل إلى الأرض، ولما طرح السؤال: «من يجيد تسلق الجبال..؟» ولم يحظ بإجابة، عاد إلى الأرض كالتيار مجندا نفسه لفنّ جديد يتناسب مع حالة محيطه، فتتضح صورة سماوية أرضية فى قلب القصة، وحالة من التوتر والحركة والنماء السريع المتتابع.

ومع ختام الحزمة يكلل العنوان «جديد» طليعة القصة، التى نبضت بالحياة وتوهجت بها سمة التجدد والاستقرار والنماء، فتحسس النبض وغرس الورد إشارات جلية على الحياة، والإدراك والإسراع نحو التمسك بالبقاء، وهى دعوة إلى زرع بذرة قوامها العمل الدؤوب بعيدا عن قوى الصراع والتثبيط، وبعيدا عن الزهو بالمناصب، أو استمراء التفرد مع القدرة على نقل الأثر.

جديد

تحسس نبضه، وجده مختلفا عن المرات السابقة، سأل طبيبه..

أجابه الطبيب: هل غرست وردا جديدا؟.

ولم تكن حالة الحركة مقتصرة على الأحداث بل دخلت فى جوف العلامة الدالة التى تكررت بتعجب «!» واندهاش يساورنا فى كل لحظات الحياة، وانتهت ب «؟». وهذا الأخير أقوى دلالة على استنباط ما فى النفس من قوة وقدرة للاستمرار فى العمل على الأرض ف «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

إنّ امتداد هذه الشذرات ولمعانها من خلال خيط وثيق ترجعنا إلى نقطة الصراع، فالصراع سبب فى الاستمرار والتطور، وهو جزء فاعل فى التركيز على موقف شعورى أو نفسى أو حادثة ثم تفرعها من المفرد إلى الجماعة، لتخرج من طى الكتاب إلى واقع الحياة، ويعطيها بذلك الوحدة البنائية المطلوبة، والتماسك المحكم بعيدا عن التفاصيل.