آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الحرب الأوكرانية ومتغيرات موازين القوى

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في الحرب هناك منتصرون ومهزومزن، والمنتصر هو الذي يفرض شروطه، والعلاقات الدولية ليس فيها صداقات دائمة، كما قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، بل تحكمها المصالح والاستراتيجيات.

والحرب الروسية على أوكرانيا ونتائجها لن تكون استثناء في هذه المعادلة. لقد دخلت روسيا الحرب بأهداف معلنة، وأخرى مضمرة. الأهداف المعلنة للحرب هي منع أوكرانيا من الانضمام لحلف الناتو، ونزع أسلحتها الاستراتيجية، وفرض ما وصفته إدارة بوتين بالحياد الإيجابي عليها، وتحقيق مطالب إقليم دونباس في الانفصال عن أوكرانيا.

أما الأهداف المضمرة في المطالب الروسية فهي ضمان الأمن الأوروبي للكل، من غير استثناء، وأيضاً إنهاء حقبة الهيمنة الأمريكية على القرارات الدولية، وإعادة الاعتبار للتعددية القطبية. والمعنى المتضمن في ذلك هو عدم تهميش الدور الروسي، والاعتراف به كقوة دولية فاعلة.

الحرب الأوكرانية التي ستدخل قريباً، شهرها الثالث، حققت الكثير من الأهداف الروسية. فقد تمكن الانفصاليون في دونباس من مضاعفة الأراضي التي كانت بحوزتهم قبل الحرب، وسيطرت القوات الروسية على معظم المناطق الشرقية من أوكرانيا، وهي في طريقها لاستكمال السيطرة على إقليمي دونباس وخيرسون. وتتجه الآن بقوة لفصل الجنوب الأوكراني عن المركز، ما يعني حرمان أوكرانيا من شواطئها وموانئها، وبالتالي من الاتصال بالعالم عبر البحر، وفتح الطريق أمام روسيا بالإبحار بحرية عبر البحر الأسود. وقد لا يطول بنا الوقت حتى نشهد تحقيق هذا الهدف الروسي.

وعلى الصعيد الدولي، ورغم الدعم العسكري الواسع الذي قدمته الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، فإن هذا الدعم لم يسعف أوكرانيا في صد التوسع العسكري الروسي. وقد أظهر هذا الواقع، الإدارة الأمريكية كقوة عاجزة عن حماية حلفائها.

تحقيق روسيا لنصر حاسم في أوكرانيا، يتسق مع الأهداف الروسية المعلنة في فصل الشرق والجنوب عن المركز، قد يفتح شهية القيادة الروسية لعمليات عسكرية أكبر، ربما لن تقتصر على أوكرانيا، بل تتعدى ذلك إلى ما تعتبره إدارة بوتين تهديداً حقيقياً لأمنها القومي. ليس ذلك فحسب، بل إن قوة دولية أخرى، كالصين الشعبية ربما تجد في المبادأة الروسية والعجز الأمريكي عن لجمها، تشجيعاً لها على استعادة مناطق تعتبرها ضمن أراضيها مثل جزيرة تايوان، التي تم فصلها عن البر الصيني منذ أكثر من سبعة عقود. وهزيمة أوكرانيا في هذا السياق هي بالتأكيد هزيمة للاستراتيجية الأمريكية في تهميش الدور الروسي، وقد بدأت الإشارات الصينية تتوالى في هذا الاتجاه. فقد حذرت القيادة الصينية الإدارة الأمريكية من الاستهانة بقوتها العسكرية، وأعلنت أنها لن تتراجع عن حقوقها التاريخية في استعادة تايوان.

والخلل في توازن القوى الدولية الذي سينتج عن الانتصار الروسي لن يقتصر على منطقة بعينها، بل سيمتد إلى بقاع أخرى كثيرة من العالم، لن يكون العمق الأوروبي استثناء فيها.

فالأوروبيون، مثل فرنسا وألمانيا والنمسا، وحتى بريطانيا، رغم ضجيجهم العالي في إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإنهم لا يزالون يرفضون العقوبات الأمريكية على روسيا، ولا يلتزمون بها، وهنالك دول أوروبية صغرى مثل هنغاريا، تتجرأ علناً على مهاجمة السياسة الأمريكية. ودول منظمة الأوبك التي كانت حتى وقت قريب لا تستطيع تحدي السياسة الأمريكية، تعلن صراحة أن موضوع زيادة إنتاج النفط أو تقليصه هو رهن بإرادة المنظمة، وأنه خاضع بالدرجة الأولى للمصالح القومية للدول المنتجة، وليس لإملاءات الإدارة الأمريكية.

وعلى صعيد التغير المرتقب في النظام الدولي، فإن هناك دولاً عدة، بعضها حليفة للولايات المتحدة، وضمن أعضاء الناتو، تطالب بتغيير هيكلي في بنية النظام العالمي، ومن ضمن ذلك هيكلية مجلس الأمن وعدد الأعضاء الدائمين فيه. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يعلن أن التركيبة الراهنة في مجلس الأمن غير عادلة، وأنه حان الوقت لإعادة النظر فيها وفقاً للمتغيرات التي طرأت على توازنات القوة على الساحة الدولية. وهناك دول كانت حتى وقت قريب حليفة للغرب، وبعضها لا يزال كذلك، كالبرازيل والمكسيك، وبعض الدول العربية تطالب بوضوح بأن تؤخذ مصالحها القومية وحقوقها وأدوارها الإقليمية، وثقلها السياسي والاقتصادي في الاعتبار في النظام الدولي المرتقب.

وقد كشفت الأحداث الأخيرة، سواء في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أو في لجنة حقوق الإنسان، عن تذمر كبير من السياسة الأمريكية، وعن تراجع قدرة إدارتها على فرض سطوتها على الدول والمنظمات الدولية.

نحن أمام تغيرات هائلة مرتقبة ستأخذ مكانها على الساحة الدولية قريباً، ولن يطول بنا الانتظار.