قراءة في كتاب «بصائر قرآنية»
أحيانًا يواجه خطاب المِنبر صعوبةً في الانتشار والتأثير كتابيًا أو شفهيًا بسبب عدم دقة تشخيص «مستقبل» الرسالة ومستواه، هل ما يُكتب أو يُقدم خطابا لمن هم في مستوى المرسلِ والكاتبِ والخطيب أو أعلى منه أو دون مستواه المعرفي والثقافي؟، كثير من مضامين الخطاب الديني والثقافي تُقدَّم بدون التشخيص والتحليل للمتلقي تعليميًا وثقافيًا، ما هو مستواه وماذا ينقصه؟ ومنها تفاسير الآيات القرآنية التي تزداد الحاجة إليها لجيل يعيش المعلومة السريعة والمختصرة وذات التأثير السريع.
كُتبٌ كثيرةٌ منها التفاسير القرآنية أو الكتب المتعلقة بالسُّنة النبوية وروايات أهل البيت تواجه هذه الأزمة، لمن نكتب، وما حجم تأثيرها على المستقبل؟.
في زمننا وبفعل النمو التعليمي الأكاديمي في عدة تخصصات علمية وإنسانية وخصوصًا علوم اللغة العربية، يوجد من لديه القدرة على قراءة التفاسير التخصصية العميقة بالقرآن، ولديه قدرة المقارنة والمقاربة والتبسيط لمن هم في سن الشباب الذين يحتاجون لهذا النوع من الكتب المبسَّطة التي تشجع على القراءة والتحفيز للبحث والاستزادة.
الكاتب المتخصص أكاديميًا، المتنوع الثقافة الواعي بما يفتقر له المجتمع والشباب بثقافته المتواضعة، عليه دور كبير في سد فراغ النقص لهذا النوع من الكتب الموجهة للشباب، فالكاتب المثقف هو الوسيط بين الكتب التخصصية - مثل التفاسير - وبين القارئ غير المتخصص. معرفة ما يحتاجه الشباب هي الخطوة الأولى لتأليف ما ينقصهم.
شباب يعيش في أجواء العلم الأكاديمي والثورة المعلوماتية وحكم العلوم التطبيقية العصرية، في كل حواراتهم يطالبون بالدليل العقلي والمنطقي فهو أقرب لمنهج تفكيرهم التعليمي والأكاديمي، يجذبهم ما هو عقلي وموضح بالدليل، ولا نقصد هنا أن كل شيء في الدين ينبغي تفسيره علميًا وإقناع المتدبر بالعقل وإثباته بالبرهان، لكن تقديم تفسير للقرآن يثير عقولهم ويحرك مشاعرهم ويقارب تفكيرهم ومنطقهم بالمحتوى الديني بأسلوب سلس ومبسط يشجعهم على التأمل والتدبر بعمق، فمثلًا: ربما الكثير من الشباب المتأملين في القرآن الكريم حين القراءة والاستماع يتساءل لماذا تتكرر البسملة في بداية كل سورة؟ ولماذا ذكرت «أسماء» الله والرحمن والرحيم في البسملة ولم يذكر غيرها؟ ولماذا تتكرر بعض الآيات باختلاف بعض الكلمات أو بعض المترادفات؟.
القرآن الكريم الذي يُستحب قراءة 10 آيات منه يوميًا بالحد الأدنى لا يُتلى للبركة والأجر فقط، لكن هو كتاب هداية وتوجيه للإيمان وتعميق الارتباط بالله ومعرفة صفاته وقدرته المطلقة سبحانه وتعالى كلما تعمق بالتلاوة والتأمل. آيات القرآن تخاطب الإنسان الذي هو مركز الوجود، يتفاعل مع ما حوله في هذا الكون ويثير حواسه عن طبيعة الكون وكيف خلق بنظام دقيق لا تختل فيه حركة أو دوران، يحق لكل قارئ للقرآن التأمل في آياته وفهم معانيها حسب ثقافته وبمقدوره الاستعانة بالتفاسير الموجودة في تطبيقات الأجهزة الذكية إذا وجد ما ينقصه ويروي نهمه المعرفي.
قال إمام المتقين ”عليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق“، القرآن الكريم كتاب هداية يريد صياغة عبدًا صالحًا وخيِّرًا محبًّا لغيره ومتصالحًا مع ذاته ومع مجتمعه. يقول أمير المؤمنين ”واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل“.
دور المثقف العارف بأصول اللغة العربية من غير المتخصصين الحوزويين تقديم محتوى تفسيري للقرآن مبسط وجاذب للشباب يحرك عقولهم بتساؤلات ليزدادوا تعمقًا فيه يعيشون أجواءه الروحية والإرشادية ومعايشة أحداث ومناسبات نزول آياته ومقارنتها بما يحدث في زمنهم، النزول إلى مستوى فهم النشء لتقديم معاني القرآن هذا وقته، فهم يواجهون هجمات يومية وتشكيكات متنوعة تسلب عقولهم لما هو بديل في وسيط رقمي جذاب.
ما قدمه الأستاذ عيسى الربيح في كتابه ”بصائر قرآنية“ يصب في هذا الاتجاه الذي يقوم على المقارنة بين بعض التفاسير المشهورة والمقاربة بينها بأسلوب سلس ويخلص إلى خاتمة بعنوان «مصباح البصيرة».
مؤلف الكتاب الأستاذ عيسى الربيح معلم يعيش بين التلاميذ والطلاب ويتفاعل معهم ويعرف ما يدور في أذهانهم، تعرَّفَ على تساؤلات الشباب من خلال الدورات القرآنية التفاعلية معهم التي قدمها على مدى سنوات، طُرحت عليه أسئلة عديدة ومن هذه الأسئلة تولدت له رؤية فيما يكتب ويقدم، وبسبب اهتمام الباحث عيسى بالاطلاع على أغلب التفاسير من المذاهب المختلفة، حتى توصل لخلاصة ضمَّنها في كتاباته وخطاباته كتب وقالها في ملتقيات ”أن كثير من المفسرين لم ينفتحوا على الآخر بسبب اتباعهم لمذهب معين وآخرون يطلعون على تفاسير تتوافق مع أفكارهم مما يعزز الانحياز التوكيدي لأفكارهم، حتى في داخل المذهب يعتمد بعض المفسرين المتأخرين على ما ينسجم مع عقائدهم وأفكارهم ولا يخرج عن إطار ثقافتهم“ وهذا يقلل سعة اطلاع الباحث في علوم القرآن الكريم الذي يدعو للتفكير والتدبر والاستزادة بالاطلاع على مناهج التفكُّر والتدبُّر، كذلك بعض أصحاب اتجاهات التفكير الحداثي أصموا آذانهم عن الاطلاع على التفاسير الحديثة مكررين فهم محدد نابع من أحكام مسبقة تكونت لديهم من الاستماع وليس القراءة والبحث.
المؤلف الربيح بسبب سعة اطلاعه وجد تعارضًا في بعض تفاسير الآيات للمفسرين المتقدمين لكن يراه يثري الباحث ويجعله يتنقل بين الآراء، أحيانا يوفِّق بين الرأيين وأحيانًا يرجِّح رأي على آخر بطريقة منهجية علمية وبيانية ولغوية.
قسَّم المؤلف عيسى الكتاب 15 بصيرة تتضمن كل بصيرة آية، يستعرض الآية بمقدمة ويورد مفرداتها بمعانيها ودلالة الآية من خلال بعض التفاسير القديمة والحديثة مع إبداء رأيه بمنهج علمي، وكقارئ غير متخصص عندما قرأت كتاب «بصائر قرآنية» استفدت منه كثيرًا، وسأورد مثالين من ملاحظاتي على تفسير بعض الآيات وملاحظتين عن المراجع والمصادر.
لفت نظري في صفحة 34 في الآية التي يتحاور فيها النبي إبراهيم مع النمرود: «قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ»
في دلالة الأحياء والإماتة من قبل المخلوق «النمرود» عادة المتكبر والمتغطرس الذي يتوهم أن الأمور بيده وتحت سلطته الناس، لا يعترف بحجة غيره، ويذكر ما يعزز معتقداته الوهمية مثل الأحياء والإماتة والأخطر يضلل من حوله أو الخائفون من جبروته، النمرود يعرف أنه غير قادر على فعل ما يفعله الخالق لكن رسالته لغيره من الملأ الذين حوله، لذا النبي إبراهيم انتقل إلى دليل أوضح يشاهده الكل ولا يستطيع النمرود إنكاره أو لا يقدر أن يوهم المخدوعين به في قدرته على فعل ما يفعله الخالق وهو الظاهرة الكونية شروق الشمس «قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» فالحجة للقوم وليس للنمرود المعاند والمغالط على الآخرين فهذا دليل مادي لا ينكره أحد من القوم ومن أتباع النمرود.
في صفحة 63 يورد الباحث الربط بين شك وتساؤلات النمرود وادعائه الإحياء والإماتة وبين السائل في أحياء القرية ”وحدة الخطاب والسياق متحقق لكن ليس بالضرورة أن يتطابق بالشكل الذي يكون فيه السائل مثل النمرود“، ويكمل الكاتب بتساؤل لماذا لا تقع جهة المقارنة بشخصية النبي إبراهيم؟ فيكون السائل مثل النبي إبراهيم مؤمنًا بقدرة الله لكن أراد الاطمئنان القلبي.
من المثالين السابقين لو نعمل إسقاط على واقع الملحدين اليوم المتسلحين بالعلم ويقدموا مناقشاتهم بأدلة وبراهين تجريبية من وجهة نظرهم حين نجح بعض العلماء في الاستنساخ والهندسة الوراثية التي يتباهون بها اليوم ويؤكدوا إلحادهم وعدم إيمانهم بالخالق غرورًا أو اعتدادًا بعلمهم، وهم يرون التطور العجيب ويعتقدون وهمًا أنهم قادرون على فعل كل شيء، بالرغم هم مصداق الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ سورة الحج 73.
مثال آخر، الباحث اختار آيتين بينهما معاني مشتركة الآية الأولى صفحة 271 «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» الآية الثانية صفحة 309 ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ هناك ربط بين الآيتين أحسن الأقوال والتمييز لأحسن الكلام يأتي من خلال أذن واعية، وذكر الباحث حسب التفاسير المعتبرة أن الآية تشير لأفضل الأذن الواعية أمير المؤمنين صفحة 317 "والله أنا الذي أنزل الله في «وتعيها أذن واعية» وذكر الباحث عيسى أمثلة على قربه للرسول ﷺ ومناقبه صفحة 320.
ذكر ابن بطريق في رواية خصائص الوحي المبين ”فأنت أذن واعية“ والسيوطي الشافعي في جمع الجوامع ذكرها السيوطي الشافعي.
عصر أدوات التواصل الاجتماعي زمن الكلمة المنمقة والمزينة بالكلمات الخادعة التي تجذب الأذن وتغري العقل، زمن العبارات القصيرة الهادفة للتغيير، ما أحوجنا للأذن الواعية واتباع أحسن الأقوال وهذا يتحقق بتقديم خطاب ديني يواكب المرحلة بمضمونه ووسائله.
كما لاحظت من قراءتي كتاب «بصائر قرآنية»، أراه جدير بالذكر وممكن تكوين فكرة عن منهج الباحث عيسى الربيح استعان بعدة مراجع ومصادر في معاني المفردات والتفاسير القديمة والحديثة، لم يكتفِ بالمعاجم القديمة لكن استخدامه كتبًا لمعاني الكلمات لأكاديميين يحملون شهادات لغوية وأدبية عليا ماجستير ودكتوراه وعددهم 16 متخصصًا وباحثًا لأن الباحث يرى اللغة كائنًا حيًّا تتطور بتطور المجتمعات وثقافاتهم.
كما لاحظت في اعتماده على التفاسير من المذهبين الشيعي والسني مع التركيز على مصدرين من التفسير «التحرير والتنوير - ابن عاشور، الميزان في تفسير القرآن - السيد الطباطبائي».
التفسير الأشهر عند الشيعة وهو الميزان في تفسير القرآن للسيد محمد حسين الطباطبائي «1904 - 1981» استعان به 9 مرات وكتاب آخر لمفسر تونسي الطاهر بن عاشور بتفسيره في كتابه المعنون «التحرير والتنوير» وهو أقدم من تفسير الميزان للطباطبائي واستشهد بتفسير «التحرير والتنوير» لابن عاشور 24 مرة.
المفسر الشيخ الطاهر بن عاشور «1879-1973» صاحب مؤلف تفسير التحرير والتنوير، كان متقنًا للغة الفرنسية وتقلد بعض المناصب الإدارية قضائية وتدريسية وعضو مَجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق وعُيّن شيخًا لجامع الزيتونة وألف 40 كتابًا بتخصصات مختلفة، منهم تفسير التحرير التنوير في 30 جزء، وإتقانه لغة غير لغته الأصلية ومشهود تضلعه باللغة العربية،
بدون شك كلما اتسعت ثقافة المفسر بالقراءة وبالتجارب الحياتية
تنعكس على عمق تفكيره وإلمامه بأي موضوع يقرأه ويحلله من عدة جوانب مثل ابن عاشور.
المفسر الآخر السيد محمد حسين الطباطبائي درس على يد مجتهدين وعلماء مشهود لهم وتخرج على يده كثير من العلماء والمفكرين يتقن الفارسية مهتم بالشعر والأدب والفلسفة وألف 44 كتابًا ولديه مطارحات فلسفية مع المفكر الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان، كتب تفسير الميزان في 20 مجلد فهو واسع الاطلاع وعميق بالمعارف والفلسفة.
ربما الباحث الربيح رأى في تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ما يوافق منهجه في الطرح والمقارنات بالرغم أنه استعان بعدة تفاسير كتبت بفترات مختلفة، ربما القارئ يتوقع قبل قراءة بصائر قرآنية أن الباحث اعتمد على تفسير الميزان بشكل أكثر لأنه يتداول ويذكر في الخطاب المنبري.
تبقى نقطة مهمة، في زمن انتشار المعرفة والتدفق المعلوماتي والكتب في شبكات الإنترنت التي تعمل بالذكاء الاصطناعي والخوارزميات تقرأ وتحلل اهتمامات «مستخدم» أدوات التواصل الاجتماعي توجهه إلى جهة معرفية محددة، ومنها بعض كتب التفاسير بل ممكن تنتقي العبارات والتساؤلات وتضع بعض الأسئلة المثيرة والتي لا يستطيع القارئ الإجابة عنها.