الامام علي ووحشة الاغتراب
ونحن نستذكر شهادة الامام علي في مثل هذه الليالي لا بد ان نعود إلى المعاناة التي اضنته سنين طوال فقد بدأت غربته بعد وفاة رسول الله ﷺ الذي تمازجت معه اشواقه وطموحه وشاطره اماله والامه وسارا معا يبنيان ويخططان قدرا جديدا لامتهما.. كان هناك معه منذ بدء دعوته «يتبعه اتباع الفصيل أثر امه» كما قال. فداه بنفسه في أكثر من موضع.. عرض نفسه اذ نكل غيره.. استمات في الدفاع عن دعوته.
ثم لما مات الرسول صلوات ربي عليه.. كانت هذه بداية غربته. غربة فراق حبيبه ومعلمه ومرشده ومؤنسه وابن عمه وزاد مما فيه غربة انه يرى امته تبتعد عن ارث سيده وحبيبه وتبعده هو من مركز القرار ليغدو - بعد ان كان في قلب الاحداث - شخصية على هامش الاحداث. يرى من هو اقل منه تأهيلا وكفاءة يأمرون وينهون فأنكفأ وانخذل وغدا جليس بيته مغتربا عن عالم كان فيه قبل سنوات عديدة «مكان القطب من الرحى» وقال «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى» فكان هذا بداية غربته حتى غدا يتحسر ان يقرن بأصحاب شورى عثمان الستة فيقول «ومتى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت اقرن مع هذه النظائر؟».
انه الم المغترب الذي لا يرى ان العالم عالمه ولا الناس ناسه والا الامال اماله، ومما زاد الطين بلة والغربة الما رحيل زوجه وحبيته وابنة عمه وانيسته سريعا بعد فراق ابن عمه.. رحلت سريعا في ظروف من الألم والقهر والحزن فتعززت بذلك غربة روحه وتصعدت بذلك لواعج الفراق في نفسه وحن إلى الايام الخوالي المزهرة حيث كان بينهما يبادلهما الحب والامال والشكوى ويشاركهما الهموم والطموحات ويأملون بمستقبل مشرق لم يتحقق.
ولما مضى على غربته بفراق رسول الله أكثر من ثلاثين سنة حدثت الفتنة وجاءه القوم محتاجين مفتونين مبلبلين قد وقع ما وقع بينهم يأملون منه ان يعيد اليهم امنهم وعزهم وهو يقول «دعوني والتمسوا غيري» فلقد انحرف الطريق وتباعدت الاهواء وكثرت الفتن وقل الطمع في صلاح الامر.
ولم يكن ليطفئ ظمأ روحه وشوق كيانه إلى عالم لم يعد موجودا واحباب رحلوا عنه.. لم يكن ليطفئ هذا الظمأ شيء الا انه وجد بعض سلوى في رجال يذكرونه بهم ويشاركونه بعض امالهم وافكارهم فاتكأ عليهم وقد أوهنت الغربة عزمه وفتت عضده لولا بأس قوي وعود صلب.
رأى في عمار بن ياسر ومالك الاشتر ومحمد بن ابي بكر وابن التيهان وثلة من الأنصار والمهاجرين.. راى فيهم بقية باقية يعالج بهم همومه ويبثهم اوجاعه.
ونحن اليوم عندما نستذكر هذه المناسبة الحزينة بما فيها من تفاصيل التخطيط والاغتيال واحداث ما بعد الضربة يحسن بنا ان نعود لنرى حال دولة الخلافة في عاصمتها في الكوفة في رمضان في عام 40 بعد الهجرة لنتلمس جانبا من الغربة التي كان يعيشها قبل أيام رحيله لنعرف ما معنى قوله «فزت ورب الكعبة».
لقد عاد الامام من صفين بجيش منقسم على نفسه قد ارهقه القتال فلم يكن بيت في الكوفة الا وفيه ناعية وقد فنيت اسر بأكملها وبعد عصيان وتمرد اجهض امال النصر في صفين كان على علي ان يخوض حربا داخلية مع فرقة من جيشه خرجت ورفعت عليه السلاح فبات الوضع أسوأ مما كان قبل صفين وظهر التململ في القبائل المناصرة له واظهروا عدم الرغبة في القتال فكان يحثهم فلا يتحركوا ويستنهضهم ولا ينهضوا فبدأ يقرعهم ويوبخهم ويقول «فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا ينسلخ عنا الحر وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر» وضاق ذرعا بهم وبدا أكثر غربة ووحدة ووحشة «اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، فَأَبْدِلنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وأَبْدِلْهُمْ بِي شَرَّاً مِنِّى».
وغدا معاوية وعمر بن العاص يخططون في توهين جماعته وتخريب الأجواء في الكوفة بكل أنواع المكر والحيل فكاتبوا رؤوس القبائل والشخصيات يستميلونهم ويمنونهم والا فيخذلونهم ويثبطونهم وارسلوا أوغادهم وعتاتهم يعيثون في اطراف دولة علي يقتلون ويسلبون ويستحلون دماء المسلمين وينتقصون الدولة من اطرافها مستعملين ابشع أنواع الفتك والإرهاب والاذلال «وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْإِسْتِرْجَاعِ وَالْإِسْتِرْحَامِ»... فطفح به الكيل وتقوضت اماله في صلاح الامر فغدا يضرب كفا على كف يريد ان يستبدل رجال معاوية من اهل الشام برجاله.. الواحد بعشرة «لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ مَعْرِفَةً وَاللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلَأتُمْ قَلْبِي قَيْحاً».
اذا كنا سنتستذكر اليوم هذه الحادثة ونستشعر فداحة الامر فلا بد لنا ان نستشعر مدى هذه الغربة التي واجهها الامام علي في اخريات حياته.. انه الم كبير انها غربة قاتلة.
وعندم نقترب أكثر لنرى مدى هذا الاغتراب في واقعه المر.. لنرى كيف كان يتذكر البقية الباقية الذي اتكأ عليهم في محاولته للنهوض والإصلاح كما قلنا وها هو يراهم في صفين وبعدها يتخطفهم الموت واحدا بعد اخر ففقد عمار في صفين «وما ادراك ما عمار» ولنقف على هذا الموقف لنرى مدى ارتباطه بهؤلاء الاصحاب يقولو المؤرخون «ولما كان يوم صفين خرج عمار إلى أمير المؤمنين فقال: يا أخا رسول الله أتأذن لي في القتال. فقال : «مهلاً رحمك الله». فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاده ثالثاً فبكى أمير المؤمنين فنظر إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله ﷺ، فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عماراً وودعه، ثم قال: «يا أبا اليقظان جزاك الله عنا وعن نبيك خيراً فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت» ثم بكى أمير المؤمنين وبكى عمار.
ولما امتدت يد الغدر لمالك الاشتر وهو في طريقه لولاية مصر وبلغ ذلك الامام علي حزن حزنا شديدا وقال «للهِ دَرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي».
فكان الامام علي يحس الغربة بفراق أمثال هؤلاء وتشعر في كلمانه بنبرة الألم ووحشة الفراق وتبدد الامال وهو يرى دولته تنكمش ومعسكره يتضعضع واخوانه يتساقطون فيقول «أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة. «قال ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء، ثم قال »: أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه».
انها حسرة الوحيد الغريب الذي لم ينصفه زمنه فخرج من هذه الدنيا تائقا إلى لقاء احباب له رحلوا زاهدا في هذا العالم بمن فيه وما فيه قائلا «فزت ورب الكعبة».