موقد الموت
مرت ساعات منذ أن عرفت أنهم أصبحوا ليسوا على قيد الحياة، وخبر وفاتهم يتداوله الناس وتتناقله الأخبار والجرائد، وما زالت حتى الآن قدرتي على تحمل صدمة الخبر تؤرقني ولا أدري كيف ومتى سأتجاوز ذلك؟
قلبي مفجوع لا يستوعب كيف تستعمل أسرة صغيرة بريئة كأوراق الياسمين فتحرق جميعا في موقد الموت ليدفئ بها إنسان أنانيته، لا أعتقد النسيان سيَحِلُّ هذا الوجع لأنه حرق القلب والعقل معاً.
حاولت أن أضع رأسي على مخدتي وأنام، لعل قلبي يهدأ قليلاً وعقلي يتوقف عن التفكير، لكن النوم كان أبعد مني بذلك، صحوت مرهقا جداً، أشعر بالحر رغم برودة التكييف، وكلما تذكرت النيران التي التهمت صوت صرخات الرجاء الأخيرة لهم، ازداد جسمي تعرقا.
إنها أسوأ المشاعر، التي يكون فيها من نحب هم خاتمة حياتنا، جميعنا لنا أقدار محددة بالحياة، لكن هناك موت مختلف عن أي موت آخر، هناك موت صامت، هادي، يودعون الدنيا فيه بسلام، وهناك موت ينتهي بصرخات تطلق من أفواه صائمة، وقلوب خائفة، وأرواح مختنقة بأقرب الناس لها قبل أن تخنقها النيران.
بأنين يفجع القلب، يطلقون صرخاتهم بأعلى مستوى، كأنهم يرسلون لنا سلامهم الأخير، لماذا يرحل الطيبون سريعاً لماذا؟
فاحت في صفوى رائحة الموت، وشبح الصمت يغطيها، ليلة ثقيلة، صادمة، كيف يمكن تحمل هذا القدر من الفقد في يوم واحد؟ فجأة تختفي صورهم، وابتساماتهم، فجأة نودع عائلة كل فرد منها كان يمتاز بما يجعلنا نتحسر لرحيله.
داهمتني الدموع وشعور بالرهبة عندما فكرت كيف أعزي أهلك يا زهير؟ أجد نفسي لا أستطيع عزاء نفسي بك، حاصرتني الذكريات معك، كما حاصرتكم النيران، رحلت أيها العزيز الطيب أنت وعائلتك على عجل، وتركت فراغا واسعا في قريتك، وفراغا في مخيلتي وذهني لا يشعر به أحد لكنه يفترس داخلي بألم.
عندما تجتمع الطيبة الشديدة، والأخلاق العالية، والعفوية الجميلة المغلفة بقلب أبيض يحب الخير للجميع في داخل إنسان سترون اسم «زهير» فيها، رحيله خسارة كبيرة لنا، وبصمة وجوده صعب نسيانها.
أشياء كثيرة جميلة كانت ستتغير لو بقوا معنا، وأمور أكثر ستتغير بحسرة برحيلهم عنا.
«فهمي» أخي الذي ولدته الحياة لي منذ خمسة وعشرين سنة، التقينا في دروب الحياة حتى أصبحت عائلتك عائلتي، كيف سأتمكن من عزائك بأخيك وهو أخي، أربت على كتفك أو تربت على كتفي؟ كيف ستشد ظهرك بعد أن كسره الموت برحيل أخيك؟ انحنى ظهرك انحناء المفجوعين الذين لا يعلمون على أي قبر يبكون ويرتمون أولا….
أخي فهمي أين نجد مثل زهير في زمن لا ينمو حب جميل صادق كما كان فيه، أرواح نادرة تتبرعم فيها الطيبة والإنسانية فيكون فقدها واقعا مؤلما أسوأ من كوابيس الأحلام، تضعف الأمراض مناعة أجسادنا
ويفقدنا الموت مناعة أرواحنا فتصبح هشة ضعيفة لولا رحمة الله بنا والسلوان..
والدتي أم زهير إذا كانت الدعوات مُسكنا لقلوب الفاقدين فإن أكثر الدعوات ستدعى لأجلك ليتحمل قلبك الذي سيبقى كالقرحة والجرح المفتوح لن يُضمّد، فهو جرح عميق فيه فقد الابن والأحفاد والأعزاء من صلبه، البيت التي سعدتي به كلما زرتهم به لم يعد عامرا بأحد، لم تبق إلا صورهم التي سوف تتأملينها وتمسحين بيديك على وجه كل واحد منهم وتهمسين بالحب والاشتياق بداخلك لكل واحد منهم حتى تأخذك الحسرات والآهات بالبكاء والحسرة على دنيا أسودت بدونهم، ليت هناك أي دواء نستطيع وصفه لك لتتحملي هذا البلاء ليقوى قلبك كلما اشتقتي إلى ابتسامة زهير وهو آتٍ لك وحنان زوجته وهي تدللك وقبلات محمد وعقيلة على رأسك ….
كل الأشياء حزينة في صفوى والشارع قرب منزلهم خالٍ، فمن يمر بجنبه إما يمر مسرعا أو يتوقف برهة ليقرأ الفاتحة مع شحوب الوجه لهذا الفقد الكبير، السيدة صديقة الزوجة المباركة «أم مؤيد» جيرانك منذ الآن يفتقدون جيرتك التي صنعت أجمل الابتسامات معهم، لبسوا السواد حزنا لكن حزن القلوب كيف لها أن تبرد؟
كم طالبة فتحت هاتفها تبحث عن رقمك يا عقيلة؟ تشاهد صورة البروفايل؟ آخر المحادثات؟ جميعهم يريدون حفظ أي شيء تبقى من عطر وجودك بينهم متمسكين بأي خيط يذكرهم بك؟ أما مقعدك يا عقيلة فهو أصعب ما سيواجه زملائك ومعلمينك عند العودة للمدرسة.. طيفك المبتسم سيبقى جالسا فيه يرافقهم بكل حصة.. ستذرف الطالبات دموعاً فرفقا بهن يا معلمات فعقيلة جزء بكل واحدة منهن.
شباب صفوى في صمت كما هو الصمت الذي يتلقونه عندما تدق أصابعهم رقم محمد بانتظار الرد، غصة بقلوبهم صعبة الوصف، إطلالته التي عهدوها سيحرمون منها، زملاء عمله سيكونون الأكثر بكاء في مجالس العزاء، فما تركه بينهم من حسن أدبه وأخلاقه وطيبته ليس بالسهل عليهم بعد ذكر اسم محمد يسبقها كلمة المرحوم، يا كوكبا ما كان أقصر عمره …
عائلة لم يختلف أحد في حبها، تركت في ذاكرة جيرانها وأهلها كمية هائلة من الذكريات والمواقف التي نسجت لحناً جميلا لن يغيب أبدا عن الذاكرة، لا أحد يعرف لغز حكاية الموت ولا تفاصيل ما عانوه، لكن الجميع يدرك أنهم فقدوا شيئا صعبا أن يعوض، قلوب نقية، لم تتحمل العيش في دنيا مثقلة بالسواد والأحقاد فرجعت إلى أمانة ربها لتعيش بمكان يليق بصفاء أرواحهم.
جاء رحيلكم في ليالي حزننا على جرح فراق أمير المؤمنين، وفي شهر الرحمة العظمى، لذا أدعو الله أن ينثر رحمته على أرواح من فقدنا وينير بيوتهم الجديدة بضياء ونور وعوض جميل يليق بهم، وأن يضمد الله جراح أهاليهم بالسلوى والصبر والرضا.
أصبح وقع الزمن أثقل علينا بالعيش بعمر ينهيه أولادنا لنا، لن تكون أيام الحزن الأولى لفراقكم سهلة، أدرك
وجع قلوب محبينكم، سيكون ذكر أسمائكم مبكيا، والمرور بجنب منزلكم صعبا، النيران تحرق الأماكن والأجساد لكنها لا تحرق الذكريات أبدا.
يستحقون وداعا يليق بهم، نحن مقبلين على ليالي القدر لترتفع أصواتنا بالدعاء لهم، لنخبرهم كم نحبهم بالصدقات التي هي وسيلة الوصل بيننا وبينهم.
لنفرحهم بديارهم الجديدة، ولنسأل الله إلى محبيهم عظيم الأجر على مصابهم ونردد بقلوب راضية «إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون»