تغيير في بنية النظام الإقليمي العربي
الحرب الروسية على أوكرانيا، محطة انتقال رئيسية في النظام الدولي العالمي، وذلك ما عبّرنا عنه منذ الأيام الأولى لاشتعال الأزمة. وقد جاءت الأحداث، وتصريحات المسؤولين والقادة الأوروبيين والأمريكيين لتعزز من هذه القناعة. فكل الأطراف متفقة على أن ما بعد الحرب على أوكرانيا، ليس كما قبلها.
السؤال الذي يطرحه هذا الحديث، هو أين موقع العرب في التحولات السياسية التي تجري بوتائر على الساحة الدولية. وما هو الموقف الصحيح الذي ينبغي عليهم تبنّيه، تجاه سياسة المحاور الجديدة التي توضحت ملامحها منذ الأيام الأولى للحرب، وباتت الآن أكثر وضوحاً.
أشرنا في مقالات سابقة إلى أن ما قبل انبثاق أي نظام دولي جديد، يشكّل فرصة ينبغي عدم إضاعتها، للبلدان النامية. لقد تمكّنت معظم البلدان العربية من تحقيق استقلالها بفضل الكفاح الملحمي الذي خاضته ما بين الحربين العالميتين. وقد كان قيام أنظمة وطنية في الخمسينات والستينات، انعكاساً لتوازن القوة بين المعسكرين الشرقي والغربي. والأهم ضمن التطور في سياسات بلدان العالم الثالث، هو تشكيل كتلة عدم الانحياز التي أقرت في مؤتمر باندونغ في إندونيسيا. وكان عماد فكرتها أن على شعوب العالم النامي، أن تستخلص الدروس والعبر من نتائج الحرب العالمية الثانية، وأن تنأى بنفسها عن الالتحاق بأي من المعسكرين الشرقي والغربي. ولصعوبة تحقيق ذلك من قبل الدول فرادى، وجب تشكيل قوة عالمية جديدة تنأى بسياساتها عن المشاركة في الحروب التي تجري بين المعسكر الغربي والشرقي.
ومع انتهاء الحرب الباردة، تراجع دور كتلة عدم الانحياز، حيث باتت العصا الغليظة احتكاراً لليانكي الأمريكي. وباتت هيئة الأمم المتحدة تابعة له. فلم يصدر خلال التسعينات «فيتو» واحد من مجلس الأمن الدولي، سوى القرارات التي تتخذها أمريكا. وكانت في أغلبيتها ضد المصالح العربية، والقضية الفلسطينية.
الوضع الآن صار مختلفاً جداً وبوضوح. فروسيا والصين، باتتا تستسهلان استخدام حق النقض. وقد مارستاه فعلياً في القرارات الموجهة ضد سوريا، عدة مرات. واستخدم من قبلهما في مناسبات أخرى. والهيمنة الأمريكية على ميزانية الأمم المتحدة باتت أقل بكثير مما كانت عليه، على الرغم من أنها لا تزال الأولى في هذا السياق.
والعقوبات التي اعتادت أمريكا فرضها بحق الدول المعادية لسياساتها، والتي كانت تلقى قبولاً دولياً واسعاً، في ما سبق، باتت تذهب مع الريح الآن، وبات من الصعب على الإدارة الأمريكية إقناع حلفائها بتبنّيها. والدليل الصارخ على ذلك هو رفض كثير من الدول الاستجابة لتنفيذ العقوبات التي فرضتها مؤخراً إدارة بايدن على الاتحاد الروسي، إثر بدء الحرب الروسية على أوكرانيا.
فدول كانت إلى حد قريب في قائمة أصدقاء الولايات المتحدة وحليفة لها، كالمكسيك والبرازيل وباكستان، وتركيا وماليزيا وهنغاريا، وعدد من الدول الأوروبية، كالنمسا وألمانيا وفرنسا، ترفض بشكل صريح، هذه العقوبات، وبعضها ينطلق من مواقف مبدئية، وآخرون يتعللون بعدم قدرتهم على تحقيق ذلك.
وحتى عندما صدر قرار بوتين بأن مدفوعات قيمة الطاقة الروسية، لن يتم إلا بالروبل، قَبِل الجميع ذلك، وإن كان البعض قد قبل بذلك على مضض. وقد أدى ذلك إلى انتعاش سعر الروبل، وعودته إلى ما كان عليه قبل الحرب. ويتوقع أن تقرر روسيا في الأيام القادمة، أن يطبق ذلك على مجمل صادراتها من القمح والسلع الأخرى، بما في ذلك الطائرات، ومختلف أنواع الأسلحة.
في هذا المنعطف من الأزمة الدولية المستعرة بين الشرق والغرب، والتي تشي بتشكل محاور كبرى، لا بد من إعادة النظر في سياساتنا، ومواقفنا مما يجري من تحولات فوق كوكبنا. صحيح أن أقطاراً عربية تبنت الموقف الصحيح في الأزمة الراهنة، بعدم انجرارها إلى تأييد هذا الفريق أو ذاك، لكن فاعلية ذلك، تستوجب، قيام نظام عربي قوي قادر في معمعان الصراع الدولي المحتدم، على حماية المصالح الوطنية والقومية للبلدان العربية، وصيانة الحقوق.
إن الحل الصحيح هو إعادة الاعتبار لفكرة إحياء الكتلة الثالثة؛ كتلة عدم الانحياز، لضمان حماية أمتنا من شرور الحروب المدمرة، لكن التوجّه نحو بناء الكتلة الثالثة يفترض أن يكون العرب موحدين في مواقفهم وسياساتهم. والخطوة الأولى في هذا السبيل، هي تحقيق مصالحة عربية شاملة تنطلق من اعتبارات عربية خالصة، تجعل منّا كتلة موحدة فاعلة ومؤثرة، ضمن كتلة عدم الانحياز.