آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 9:28 م

الإطار الفارغ

عبد الله الناصر

قبل سبع سنوات، أثناء عملي، رن هاتفي... صوت وقور وأدب لافت في الحديث.. عرف عن نفسه.. كونه جار أحد أصدقائي.. رحبت به.. لم يضعني بغموض الاتصال بل سارع بالتوضيح وقال:

علمت أنك بارع في التصميم والديكور، وأنا أحتاج لبراعتك هذه في مساعدة ابني آدم لتنظيم وتغيير غرفته.. سرحت لوهلة بكلماته «مساعدة ابني»... أدركت أن من يحادثني أب مختلف... ثم سألني عن قدرتي لإتمام هذا الطلب...

اتفقت معه وطلبت بعض المعلومات.. عمر ولده.. مساحة الغرفة وغيرها من الأسئلة الأولية... اختصر الإجابات كلها بعبارة واحدة «سأكون سعيدا لو حضرت إلى منزلي وشاهدت الغرفة بنفسك وحاورت ابني فهو من يملك الإجابات التي تبحث عنها كون الغرفة له»

ذهبت بعد يومين لمنزله، فتح أبو آدم الباب وبرفقته طفل بعمر العاشرة... إنه آدم... رغم صدمتي بصغر سنه إلا أنني سعدت جداً... لأني أحب عالم الطفولة والمشاركة بإسعادهم..

سبقني آدم لغرفته، أمسك باب الغرفة بيديه، وعندما تأكد من دخولي أنا ووالده أغلق الباب... شكرته وأخبرته أن سلوكه جميل... فقال: والدي أخبرني أن هذا من احترام الكبير...

النظرة الأولى لغرفته صادمة.. لا يوجد زاوية فارغة..

والجدران ممتلئة بالأوراق... سبورة كبيرة والعديد من الكتب على طاولة مكتبه.. والقليل جدا من الألعاب.

جلست مع آدم وناقشته بنوعية التغيير الذي يريده... قال: غرفتي هي أجمل مكان في العالم... فيها مكان أرسم به وأعلق رسوماتي على الجدران أحب الألوان كثيرا.. وبها مكان أذاكر به واجباتي... ومكان اللعب به مع أمي وأبي.. أريدك أن تساعدني بترتيب الغرفة ولا أريد أن أخسر هذه الأماكن... وأريد أثاثا جديدا بالمبلغ الذي أملكه فقط.

أحببت هذا الانتماء الذي يملكه بغرفته... حبه الكبير لكل شي بسيط يملكه... هذا الفكر لم يأت وليد صدفة إنه متبرعم من تربية مميزة... لذا جلست مع الأب وبادلته إعجابي بتربيته... وكانت لدي تساؤلات كثيرة بخصوص ذلك وكيف أصبح طفلا بعمره يملك المال الخاص به... دار حوار طويل بيننا.. تعلمت منه الكثير الكثير وأحببت أن أشارككم بعضا منها.

السبورة الكبيرة بالغرفة هي فكرة وضعها الأب يكتب فيها سؤالا إلى ابنه يوميا ليكسب من ولده الرد برسالة تجعله يدرك ويفهم ابنه أكثر ويعبر عن مشاعره مثل «ماذا ترغب بالعشاء اليوم» «هل أنت سعيد ولماذا» «ماذا كانت آخر أمنياتك»

رغم تفوق آدم دراسياً، لكن لم أجد أي شهادة تقدير معلقة بالجدران ترك الأب الحرية لابنه بتعليق ما يحبه ويعتز به فعلق الابن رسوماته البسيطة بنظرنا العميقة والغالية بنظره تلك الخربشات كانت القوة الدافعة للتفوق.

يُعطى آدم مصروفا شهريا، يتحمل به مسؤولية ترتيب إنفاقه والادخار منه وكلما ادخر مبلغا جيدا كافأه والده بضعف ما ادخره تشجيعا له، كل كتبه الموجودة بغرفته ودفاتره وألوانه وتغيير غرفته جميعها من مدخراته.. يهدف الأب تعليم ولده معنى الادخار وتقدير قيمة المال والعيش بحدود ما يملك لذلك بأفكار ذكية يحاول إرجاع المبالغ إلى ابنه بشكل مكافآت أو حوافز ليواصل طريق التعلم.

إن أفضل ما نقدمه من هدايا إلى أبنائنا ليس الألعاب بل أن نلعب معهم بها لذلك يملك آدم القليل من الألعاب لكنه متمسك بالركن الذي يشاركه والديه اللعب فيه.

رغم عدم وجود صندوق الصدقات بالغرفة إلا أن آدم يتبرع كل شهر لمساعدة الآخرين، يأخذه والده معه إلى المستشفى قسم الأطفال ليزورهم ويهديهم شيئا بسيطا يسعدهم ليعلمه أن العطاء إحساس وشعور لا نستشعره بوضع المال بعلب الصدقات بل بمشاهدة الفرحة بوجوه الناس.

جلوس آدم معي، احترام ما يريد، اتخاذ قرارته بنفسه وإعطائه مساحة للعيش كما يريد بحدود المسموحة هي بذور يزرعها الأب اليوم لينبت شخصا واثقا من نفسه مؤمن بقدراته ومعتقداته.

الغرفة التي وجدتها فوضى كانت فوضى ولكنها فوضى خلاقة، مساحة خاصة لحرية الفكر والتعبير والإبداع

كان يوما لا ينسى تخزن الحوار بذاكرتي، سعيت أن أشرف بنفسي وبمساعدة من آدم بتركيب كل الديكور الجديد وأهديته إيطارا فارغا علقته بجانب رسوماته وأخبرته أن يرسم به رسمة مميزة بعد سنوات عند تخرجه من المدرسة.

من دخولي إلى خروجي تغيرت مفاهيم كثيرة بداخلي؟ كم واحد مثل أبي آدم موجود يحملون فكرا جوهريا في التربية نحن بحاجة له؟ كم منا يرى نفسه مقصرا تجاه أبنائه؟؟

الحقيقة المرة أن الأغلب أصبح متشابها بالتربية، شراء أجمل الملابس، توفير ألذ الأطعمة، إشراكهم بأفضل النوادي، إعطائهم أكثر الأجهزة تطورا، تعليمهم بأفضل المدارس،... كثير منا يجتهد بتوفير هذه الأمور لإقناع نفسه بكونه مربيا جيدا والحقيقة هو الخوف من تحمل المسؤولية وتدليل الأبناء، الأم ليست من تنجب والأب ليس من يرعى.

لنضم أبنائنا بأحضاننا بدل أن نرسل لهم ملصق قلب في الوتس آب، لنشاركهم اللعب بدل أن نشتري لهم الألعاب ينعزلون بها بعيد عنا، لنتوقف عن التركيز عن الرقم الموجود بالشهادة ونركز بتنمية الشخصية، الشهادة ستكسبهم عملا جيدا لكنها لن توفر لهم مجال إبداعهم وطموحهم وأحلامهم.

بيدكم أن تختاروا أتريدون أن تكونوا أهلا عاجزين متكئين على المجتمع لتربية أبنائكم، أم أهلا مجتهدين متحدين هدفهم ترك أثر جميل لهم بالحياة متمثلا في أبنائهم.

كل ما عليك أن ترى أبناءك الآن بعينيك وتفكر هل قمت برعايتهم فقط أم برعايتهم وتربيتهم في آن واحد.

أعلم أن أغلبنا مقصر خاصة مع كثرة المسؤوليات...

التربية طريق متجدد كل يوم مع تحديات هذه الحياة.

لنتوقف عن رسم مستقبل أبنائنا ولنجعلهم يرسمونه بأنفسهم ورغباتهم، لنستبدل التدليل بتعليمهم تحمل المسؤوليات، وبدل أن نبعد عنهم كل ما قد يسبب لهم التعب والفشل لنعلمهم أن الفشل يعلمنا الصواب وأن تجاوز التعب يولد الإنجاز.

مهما كان عمرك ومستوى تعليمك وقدراتك تستطيع أن تربي ابنا ناجحا موهوبا واثقا من نفسه ومؤمنا بذاته والأهم من ذلك سعيدا طالما تملك الحب بداخلك لهم، الحب هو من يولد الإبداع بأفكار التربية.

قد تنتهي صلاحية بعض المواد، لكن لا ينتهي الوقت في التربية، مهما كان عمر أبنائك، اختلافاتهم، صحتهم، هناك متسع دائما للتغير نحو الأفضل، تكدس الشهادات في أدراج الطاولات ويكدس الحب في قلوب أبنائنا فأغرقوهم بالحب بالتربية السليمة.

منذ أيام وصلتني صورة من خلال الوتس آب، أثرت بي كثيراً، كان إطارا رسم عليه صورتي وكتب خلفها «لقد وفيت بوعدي، لم أجد ما يليق برسمه بهذا الإطار الذي أهديتني إياه إلا أنت، شكرا لك، لمساتك بغرفتي سهلت الكثير من الأمور علي وأحببت ركن الرسم الذي صممته لي، أصبحت موهوبا بالرسم وجزءا من هذا يعود لك فشكرا لك عمي»

كم كنت فخورا، سعيدا، ممتنا لله، آدم الطفل الصغير أصبح شابا تغير جسده لكنه بقي بأصالة أخلاقه وذوقه الذي أنبته إياه والده منذ صغره. هذا الشبل فعلا من هذا الأسد.