عِطرُ السعادة
يظهر لُغويًا مِن مُرادفات مُفردة ”السعادة“: الانشراح، والبهجة، والسرور. والحبور، والفرح. أَما مُفردة ”العِطْر“ فهي اسم جَامع لكلِ رائحة طيبة، يُتَطيَّب، ويُتَعطَّر بها. وعِند انضمام المفردتين الجاذبتين، تعطيان مَعنىً وَاضحًا دَقيقًا، لايُخطئه القارئ الكريم… ولعل ”عطر السعادة“ السحري يُشير مَجازًا تصويريًا، إلى اشتعال واتقاد حَالة وِجدان مُتقدِّمة مُنتشية، تَستحوذ بشدة ضَاغطة على جُل صِهاء الفكر؛ وترتقي صُعودًا بقوةٍ نَاهضةٍ، إِلى غُرة أَحاسيس الفرد الجَذلى، عندما ينغمس نفسيًا، مِن أَعلى رأسه إِلى أَخمص قدمه؛ ويبلغ وجدانيًا، مَبلغ النشوة العارمة، مَمزوجة - بخليط مَحسوس، وإَكسير مَعسُول - مِن مَشاعر الانشراح، ومَظاهر الارتياح؛ ومُتوَّجة بأَسارير ومَحاسن وَجهه النضرة؛ ومُزدانة بأَرقى عَواطف الابتهاج… في دَواخله الراهنة.
ولاحقًا، ربما تتوغل وتتجذر بِنيَة تلك المشاعِر المُتنامية الجَذلى في مَكنون ومَخزون مَحفظة العقل الباطن؛ لتُلامِس برفق وتُناطِح بتؤدة، نَشوَة وهَبَّة تلك المشاعِر الجياشة البادية - بلَفيف صُوَرها الملونة، وحَفيف أصواتها الناعمة، ووَليف سُطوعها اللَّامعة - داخلة النفس البشرية مَعنى ودَلالة، يستقطبان ”بؤرة الشعور“ الحاضِرة، ويقطنان في سَطح مِرآة مُخيلة الفرد الراهنة… فلا يَسَعه إِلا أَن يَعيش في حَالة مِن فَيض قِمم الاغتباط؛ ويَنعم في راحة بهجةٍ رَاضِيةٍ مَرضِية، مِن مُعطيات مَلكُوت غَمر السعادة الحاضنة، في مَحاط مَراقي السرور الضافية؛ ويهنأ بزهو ساعة مُنعَّمة، في مَعارج أَصناف عالم السعادة والحبور…
وهناك، في عُقر غَمرة، انشقاق وانفلاق هَياج مُعترك المشاعر الحميمة الجذلى، تُلَوِّحُ أَجواء السرور، وتَلُوحُ سُوح السعادة، بجاذبيتهما الدافئة؛ وتَنضح بصفاء ونقاء رشاقتهما، إِلى استدعاء هَالة استهلال أَجمل طَلتهما؛ واستمطار نشر ذائع أَيقونات هَمساتهما، بعد أَن تَلقت وحَظيت بِطانتهما البِكر، بسيل وَافر ظافر مِن نََسَق تردد وتمدد إشارات ”كَهرونَفسية“ سَابحة في تيار طَلق سَالك مِن حَفز مُحرك كهرونفسي مُتأَجج، يولِّد زخمًا مِدرارًا مِن دَفع طاقة فسيولوجية وجدانية مُتجددة، تتعاظم طَرديًا؛ وتزداد تَناميًا، داخل مَجال مِلفِّها المغناطيسي النشط تلقائيًا؛ لنفث، وانبعاث واندفاع جَوهر عِطرها الفاخر الفوَّاح، في مُستَقر بعض خَلايا الدماغ؛ وربما تُفرَز وئُنتَج أَريحيةً، دَفَق سَيل نفحاتها الأَصيلة الطيارة تِباعًا؛ وتُحمَل بانصبابٍ سَلِس وسط ناقلات كيماوية خاصة؛ ليصِل مَفعول ومَدلول سائر أَريج وعَبير مَادة صِبغتها الكيميائية النشِطة إلى سُدَّة مَراكز مُستقبلة؛ تُصبح أَكبر نَشاط؛ وتُمسي أَكثر حَيوية، في وَسط قَرار مُستودع سَرِيرة وطَوِية مَراكز الدماغ الحُبلى؛ ليهِب نَسيم عِطرها العبِق الأَرَج؛ وتَنسكِب أَنماط غِبطتها الجَامحة؛ ويُنثَر أَندى وأَسمى شذا السرور النوعي لِحاقًا، والذي تَقرأ وتَستظهر درجة تركيزه الفَائقة القائمة بإِجادة مَلموسة؛ لسَبر مَجموعة مَجَاس ”حواسٍ“ عالية الدقة والحساسية، وسط مَراكز الدماغ السمعية البصرية، بعد أَن تم - سَكها وسَبكها - هناك بنجاح وارتياح…!
والمُهم في قوام الأمر واستقامته، هو نَثر مَشاعر رُوح السعادة؛ وذَر رَوابط عَواطف الابتهاح؛ ونَشر أَواصر المّودَّة الرحيمة؛ وتقوية إِسداء المحبة الصادقة في الله، إلى قلوب كافة أَطراف، وأَفئدة أَكناف صُفوف الشخوص المُبجلة العزيزة علينا، ابتداءً مِن ثُلة الأَنجال، وكوكبة الأَحفاد؛ وانتهاءً بمقام مَن نُحبهم، ونعزهم، ونُقدرهم، ونَحترمهم… في حِلهم وتِرحالهم… رُبَّما لما يَتحلَّون به مِن أَخلاق سَامية كَريمة؛ ويَمتازون به مِن حُسن مُعاملة مُثلى حَانية؛ ويَمتلكون أَصالة، مِن نبيل سَجَايا قَويمة حَليمة؛ أَو لُطف استشعارٍ حَميمٍ مُقَرِّب مُحَبِب، لخدمة مَادية، أَو صِلة مَعنوية، سَعِدنا بطَلاوتها يَومًا؛ وغَنِمنا بحَلاوتها سَاعة، في ظل فسيح رِحابها الأَغر الأَزهر؛ ولا نَكاد نَنسى شمائل حُسنَ الصنِيع المُهدَى؛ أَو نَغفل زَهوَ العطاء المُسدَى، ما حَيينا!
هذا، وفي قِمَم تَجليات وَسِيع مَشارف الانشراح؛ وفوق أَجل هَامَات إِبانة مُطِلاَّت وَديع هُنيهات الارتياج؛ وفي أَوج أَسنِمة مُتسَعات ومُنفرِجات بُرَهِ الحُبُور، نَنثر بِسخاء ونَماء، ”مِيكانيكية“ رَشَّات العِطر - الملكي الفاخر - مِن حَولنا؛ وعِندئذٍ، نعطِّر ونعبِّر، بكفاءة واقتدار، عن فَائق ورَائق فُيوض أَسمى سَعادتنا المُنهمِرة؛ ونَشرع بنَشر رَيع أَندَى وأَسخَى حَصاد مَشاعرنا الغامرة؛ لتَعم نسائم السلام؛ وتَسود هَبَّات الوِئام، في سَائر الأِرجاء، وفي مختلف النواحي؛ وتُؤسَّس، بصِدق العزم، ومَتانة الحزم، وحُسن الطوية، آفاقًا مَلأَى؛ وتُبَارَك رُؤىً حَالمة حَافلة، بكل ما يَسمو حُظوة؛ وينهض برِفعَة، وعِزِّة، وكرامةِ الإنسان المِبجل؛ ويَعلو ويتنامى صُعُودْا برِقي، وتقدُّم، وازدِهار مَسِيرة الوطن المِعطاء، قلبًا وقالبًا!
هذا، وإِذا كان حالُ المؤمن السعيد في دُنياه الفانية، يَرفل في أَثواب العز المغبوطة رَدَحًا؛ ويهنأ - بصحة وعافية - في لِباس زهو السعادة المَحبورة دَهرًا؛ ويَسعد بسابغ أَفَياض السرور مرَّةً؛ ويُحبَر بوافر مَنابع المرح أَيامًا؛ ويَسعد بمَناهل الصبابة أَعوامًا… فما بَال وحَال مَن اتقى وارتقى، بترقبٍ وتقربٍ، إلى لقاء وَعد المولى الكريم، بالفوز الضامن بفِردوس جنة النعيم، التي عَرضُها السماوات والأرض… وقد أعِدَت، وزُيِّنَت، وتَطيَّبَت، وتهيَّأَت له نُزلًا مُوَطَّأً دَائمًا؛ وبَاتت لمَثواه ومَأواه مَوطِئًا ومَوئِلًا مُيسَّرًا، يَنعَم بسَماحةٍ كريمةٍ، بأنماط السعادة الأَبدية؛ ويَغنَم بعَطاءٍ وافٍ، بأَصناف الهناءة الأُخروية، حَيث يَشاء ويَرتضي، دُون شَرطٍ أو قَيدٍ!... «أُولئِكَ لَهُم جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَحتِهُمُ الأَنهَارِ يُحَلَّونَ فِيهَا مِن أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلبَسُونَ ثِيَابًا خُضرًا مِن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَى الأَرَائِكِ نِعمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَت مُرتَفَقًا».