الزيد وحمادي.. أوراق ضائعة من حياة خالد الفرج! «القطيفية»
عبر نافذة صغيرة، كان يأخذه أبوه ليمرن بصر وليده على مسرح الحياة.. ففي أقصى الأفق من المشرق ينام البحر بزرقته الخضراء.. وتلوح في فضائه «جوالبيت» [1] الصيد الفقيرة وهي تتهادى متثائبة بين مبنى الجمرك و«حضور» [2] الصيد المكوَّنة من سعف النخل.. وفي الجهة الغربية تشرع النخيل سعفاتها للشمس والريح في لوحة متوهجة بالخضرة الندية، إذ تحول بينك وبين رؤية الأرض وما بينها من جذوع الأشجار، وخرخرة الماء في الجداول التي تكون قد شقّت طريقها إلى النخل برغبة فطرية. أما تلك المنارة الشاهقة بلوح الملح! والمبنية على الطراز البرتغالي، فقد كانت ترتفع من مسجد الإمام فيصل بن تركي في الحدود الجنوبية الغربية الفاصلة بين حي القلعة وسوق «الصكة» [3] .
ويرتد البصر بعد هذه الرحلة الخاطفة في المطلق المكاني، بين سطوح المنازل العتيقة، إلى حيث يتناول الجزئيات الصغيرة، القريبة من اللمس والرؤية المباشرة هناك في الجهة الشمالية.. آنئذٍ كان صبية الحي وصباياه يتقافزون فوق الحجارة.. إنك إن تقترب منها حتى تشعر أن لها روحًا وعاطفة، فهي تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ بعد ما انتزعها «الحمَّارة» [4] من باطن البحر! ليبتاعها من يريد أن يبني لأسرته بيتاً، بعد «برستج» [5] سعف النخل وجذوعه، كما ترى الصبية يركضون وراء حمير أعيان البلدة، وهم يبدؤون نزهاتهم اليومية بعد الظهيرة بين المزارع والعيون.
شيئًا فشيئًا يرتفع التلقين بمعرفة الحقائق المادية في وجدان الصبي وعقله، فيحاول إدراك القيم المعنوية والصور الاجتماعية، حين تأخذه إشارة الأب إلى ذلك البيت الطيني المبني على طراز بيوت أهالي «ماربيا» الأندلسية، تراها قابعة حتى الآن مولية ظهرها إلى شاطئ «البورت بانوس» حيث السواح واليخوت والفنادق الحديثة!!
نعم، أمام هذا البيت الملاصق، يبدأ الأب في الحديث عن جاره الشاعر «خالد الفرج» المولود في الكويت سنة 1898م والمتوفى سنة 1954م. إنه يذهب إلى الهند ليتعلم هناك ويعمل، ويؤسس مطبعةً لطباعة الكتب العربية، ويؤوب بعد ذلك إلى البحرين سنة 1341 هـ ، غير أنه سرعان ما يشق طريقه عنها في العام نفسه صوب القطيف بعد انقلاب الميجر ديلي على الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وتقييد الحريات هناك وكتم أي نفس وطني.. عندها لا يصمت الشاعر وإنما يواجه بشعره «ديلي» الذي ضرب بيد استعمارية من قمع وحديد على شعب ومقدَّرات عروس الخليج:
وهذه البحرين مغلولة ** يقودها الغرب إلى حفرته
قد أبعد الأحرار عن دارهم ** وقرَّب الأنذال من حضرته!
عندها تحتج أفراد قبيلة الدواسر فتنزح إلى الدمام احتجاجاً على انقلاب ديلي، ويأتي في أعقابهم ابنهم البار الشاعر «خالد محمد الفرج» الذي أصبح أول مدير لبلدية القطيف بين سنة 1346 هـ حتى 1359 هـ ، ثم يعود للعمل كاتبًا للعدل فيها، ومالكًا بعض نخيلها ومزارعها في «العياشي»، وقد طاب له العيش فيها منذ زيارته الأولى لها سنة 1328 هـ ، حيث عاد إليها سنة 1341 هـ برفقة السيد هاشم الرفاعي، لمعاونته في تنظيم بيت المال، بعد دخول القطيف في حكم الملك عبد العزيز، خلفاً لعلي بن فارس الذي «تضمن» أملاك الدولة، وجاء من بعده عبدالله بن نصر الله إثر لقائه الأول بالملك عبد العزيز في الأحساء سنة 1331 هجرية، وقد كلَّفه بإدارة بيت المال في القطيف.
هذا وقد استقر خالد الفرج في القطيف منذ سنة 1341 هـ إلى قبيل وفاته في دمشق سنة 1375 هـ - 1954م، وقد طبع الجزء الأول من ديوانه، حيث اشترى بيت بن قضيب في نهاية فريق الخان مطلًّا على دروازة باب الشمال، وأعاد بناءه من دور واحد سنة 1350 هـ ، مجاورًا لبيت عبدالله بن نصر الله، الذي داعبه بقصيدة شكوى ضد من كان يطل على داره قائلاً:
وللجارِ حقٌّ على جارِهِ ** إذا دَنَتِ الدارُ من دارِهِ
وأوصى الرسول بحقّ الجوارِ** وأنتَ، لعمري، بأنصارِهِ
وقد كان مجلسُكُمُ عامرًا ** مُحاطًا بأستارِ أسوارِهِ
فأعليتموهُ ولم تستروهُ ** وهدّمتمُ جُدرَ أستارِهِ
ولو كان محترماً للحريم ** سكتُّ سكوتَ امرئٍ كارِهِ
ولكنّه مجلسٌ بالصِّغار ** يموجُ بمجمع كُبّارِهِ
يطلُّ على دارِنا كلّ حين ** عبدٌ يطلُّ بمنخارِهِ
وأصبح بيتيَ سجنًا لَهُنَّ ** مختبئاتٍ بأقصارِهِ
سترْتم جنوبًا على بيتِكُمْ ** وبيتي أُبقِي بأعوارِهِ
وكُنتُم غضبتُم لِهتكِ الحَريمِ ** لِميلِ جدارٍ بأحجارِهِ
فأينَ الحريمُ وأينَ الحميرُ ** أحاطَكَ رَبّي بأستارِهِ
وعلى مدى ربع قرن من الزمان تتوقَّد قريحة الشاعر توقُّدًا، كانت الأحداث الوطنية والعربية تلهبه فتزيده ضراماً من الشعر والمواقف والأفكار.. تلك كانت مكونات الرجل الذي أصبح واحداً من أبرز رموز التنوير الثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية. لقد كان الفرج نغمة خاصة منفردة، نظراً لما شكّلت آراءه الفكرية وأعماله الاجتماعية، ثقافة أدبية وشعرية وسياسية واسعة، خرجت بشاعريته على المألوف السائد الساكن في المنطقة.
فهو - أولاً - يمحور شعره حول قضايا الأمة العربية، متبنيًا بشكل خاص القضية الفلسطينية في بداية محاصرتها من قبل الاستعمار الغربي والصهيوني.
ما وعد بلفور إلَّا بدء سلسلة ** من المظالم في التاريخ كالظلم
وما فلسطين إلَّا مثل أندلس ** قضى على أهلها بغي وعدوان
انطلاقاً من هذا الموقف النقدي الواعي لأوضاع القضايا العربية، يشن «خالد الفرج» حملاته الشعرية الخطابية على الواقع السياسي الممزق في الخليج: الذي لم يتصوره يوماً ”غير شعب واحد قد مزقت بيد العدى وحداته“.
إن هذا يجعله يتطلع إلى بطل تتمحور حوله دول المنطقة، مثلما تمحورت ألمانيا في شخص موحّدها «بسمارك»:
من لي «ببسمرك» يضم صفوفه ** وعليه تجمع نفسها أشتاته
فيعيد من هذي الممالك وحدة ** والعلم تخفق فوقها راياته
لكنه يجد في الملك عبدالعزيز ذلك الرمز الذي تمحورت حوله الوحدة الوطنية في الجزيرة العربية، فيهب لكتابة أول ملحمة شعرية في بطله، بعنوان: «أحسن القصص».. منطلقًا منها في تأليف كتابه المرجعي الهام «الخبر والعيان في تاريخ نجد» الذي قام الباحث الأكاديمي الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشقير سنة 1421 هـ - 2000م بتحقيقه ودراسته.
كان الشاعر في القطيف يقوم بزيارات متتابعة لرجال العلم والمجتمع.. وقد وجد فيها مناخاً علميًّا وثقافيًّا وأدبيًّا محفزًا، فبادلوه تقديراً بتقدير، مجلًّا دورهم المطلبي المستنير الذي تبلور واضحاً في استجابته بشق أول شارع رئيسي في القطيف وتشجيره أيضًا!! باذلاً الجهد من أجل نظافة المدينة وتنظيم طرق الري نخيلها ومزارعها.. والحق أن مطالب الأهالي التطويرية شكلت إرهاصًا بافتتاح أول بلدية هناك.
لقد كانت هذه المؤسسة الصغيرة تعبيراً جريئًا عن أفكار خالد الفرج المستنيرة، التي تفتَّحت في سنوات بقائه في الهند، وتفاعله اللغوي والثقافي الهندي والإنجليزي فيها، مما دفعه إلى استيعاب المطالبات «المجتمعية» بضرورة التعليم والصحة والتنمية المدنية، وتطوير تجربة «الكتاتيب» النسائية التي تحوَّلت فيما بعد إلى مدرسة أهلية للبنات، حيث بادر الأهالي إلى إنشائها سنة 1960م قبل أن تنشئ شركة أرامكو أول مدرسة للبنات في القطيف سنة 1970م.. وقد حدث هذا بدافع الحراك الاجتماعي والثقافي المستنير، الذي تمثل بإنشاء أول مكتبة أهلية فيها سنة 1956م، وقد تأثر المجتمع القطيفي بمجمل التفاعلات الثقافية والسياسية في العراق وسوريا ولبنان ومصر.
لهذا ترى «خالد الفرج» يتفاعل مع مجتمع القطيف تفاعلاً حيويًّا مباشراً بالمجتمع الحيوي وفعالياته ورموزه، مما انعكس في شعره، فهو في كل محفل ينشد، وفي كل مجلس يتحدث.. فإذا ما تأثر الناس لرحيل الشيخ منصور الزاير سنة 1350 هـ وهو أحد الشخصيات الاجتماعية البارزة، فهو يرثيه بقصيدة مطلعها:
قطرة الدمع من مآقي اليتيم ** ماء طهر منه حنوط الكريم
وفي عام 1363 هـ يكتب قصيدة أخرى في رثاء عالمها الفقيه البارع الشيخ علي بن حسن الخنيزي مطلعها:
ابكوا بدمع أو نجيع ** شيخاً يعزّ على الجميع
وفي سنة 1367 هـ يموت السيد ماجد العوامي، وهو أحد أعلام القطيف المجتهدين، فيرثيه بقصيدتين.. مطلع الأولى:
إكليل شعر على قبر من النور ** في القلب لا في أديم الأرض محفور
ومطلع الثانية:
هل بالبكاء أو العويل ** نطفي الأوار من الغليل
هذه القصائد وغيرها مما قاله شاعرنا في تلك الفترة الخصبة من حياته، لم يسجله الأديب الكويتي «خالد سعود الزيد» في كتابه عن «خالد الفرج» والمطبوع سنة 1969م بالكويت، والذي جاء خليطاً من القصائد المنشورة في ديوان خالد الفرج كما يشير الأستاذ الزيد نفسه، ومقالات لا تصل إلى مستوى الدراسة الأكاديمية، كتبها الشاعر عن شخصيات أدبية واجتماعية خليجية، نقل الزيد بعضها القليل من هنا وهناك. والحق أن خالد الزيد أعاد الحياة إلى شعر الفرج دون ريب، بعدما شارف ديوانه المطبوع ذاك على الانزواء في خزانة الدار، التي تولَّت طباعة ديوانه بدمشق في أخريات حياة الشاعر.
غير أن شعراً كثيفاً تركه الفرج متأثرًا بسنوات إقامته في القطيف، محتكًّا بعلمائها ومثقفيها وأدبائها، ازدهرت بعد تعيين الشيخ حمد الجاسر مراقبًا للتعليم في الظهران، الذي وجد هو الآخر في مجتمع القطيف الثقافي بعدًا جاذبًا لعلمه الجم وفكره المستنير، فصار يغشى منتدى خالد الفرج، ملتقيًا بأدباء القطيف وشعرائها عنده. هذا الشعر بقي لدى بعض الأصدقاء والتلاميذ.. كذلك مقالات مهمة تناثرت بين مجلة «البعثة» الكويتية التي أصدرها عبدالله زكريا الأنصاري، وجريدة «الأخبار» المصرية التي كان يصدرها أمين الرافعي المتوفى سنة 1346 هـ ، وجريدة «الشورى» الصادرة بمصر لناشرها ومحررها الفلسطيني محمد علي الطاهر.. ذاك الذي تحمَّس لصديقه الشاعر المتفاعل مع القضية الفلسطينية فأطلق عليه لقب «شاعر الخليج» متأثراً فيما يبدو بنهج الإعلام الأدبي في مصر، الذي كان لا يهدأ له بال إلَّا بتأمير أو توزير أو تعميد أو تشعيب شاعر أو أديب!! والحق أن في المنطقة ممن عاصروا خالداً، شعراء يفوقونه في الصياغة الشعرية والعمق الأدبي بمواصفاته الكلاسيكية من أمثال الشيخ عبدالحميد الخطي، والشاعر عبد رب الرسول «عبدالله» الجشي، والشاعر البحريني إبراهيم العريض، والشاعر الكويتي فهد العسكر.. إلَّا أن اتصال شاعرنا بالصحافة العربية في مصر والشام، وهو في القطيف جعله أكثر شهرة، إضافة إلى أن الفرج كان متفاعلاً مع الحركة الأدبية والثقافية العربية والمحلية في عصره أكثر من غيره.. فهو مثلاً بعد أن يحاول نفض الغبار عن الشاعر الكبير «أبو البحر جعفر الخطي» بمقالة مهمة نشرها في مجلة «المنهل» في أواخر الستينات الهجرية، نجده - كما يقول أستاذنا الشيخ حمد الجاسر - يكتب تعليقات على كتاب الشيخ محمد بن بليهد «صحيح الأخبار» وينشرها في مجلة «الحج».. ولم ينسَ أن يمد صحف المنطقة مثل جريدة «البحرين» للزايد و«الكويت» لعبد العزيز الرشيد بنماذج من شعره، الذي يضج ضجيجاً خطابيًّا بالأحداث السياسية العربية، مما أثر على فنية الشعر عنده.
غير أن من بين التراث الشعري المجهول لهذا الشاعر العربي الخليجي الكبير قصيدة، هي من وجهة نظري من القصائد القليلة، التي وصل فيها إلى مستوى من التعبير الفني، تجاوز كثيراً مما كتبه شاعرنا من شعره ذي النبرة الخطابية العالية، هذه النبرة التي كادت تختفي في قصائده «القطيفية» بشعر جزل وصور جديدة، طالما نبَّهت إليها الأستاذ خالد سعود الزيد في أكثر من لقاء جرى بيننا، منذ منتصف الثمانينات الميلادية، وكذلك فيما نشرته عن هذه القصائد، ومنها قصيدة «حمادي» فوق صفحات جريدة الرياض بتاريخ 13 ذو القعدة 1406 هـ - 20 يوليو 1986م، دون أن يشير إلى ذلك في الطبعة الثانية والمزيدة لديوان خالد الفرج المطبوع سنة 1989م في مطابع القبس التجارية، الذي أهدانيه في يوم 24/ 11/ 1989م ونحن نحضر مهرجان المربد في بغداد وقتذاك!!!
صحيح أنه ضمَّن هذه الطبعة صورًا من مخطوطات خالد الفرج الشعرية «القطيفية» إلَّا أن التنبيه إليها سبق إعادة نشر الطبعة الثانية بسنوات ثلاث، وذلك أثناء انعقاد مهرجان الشعر العربي في الخليج شتاء 1986م، الذي حضره الأستاذ خالد سعود الزيد وبعض الشعراء في العراق ودول مجلس التعاون العربي الخليجي، وقد أولمت لهم في بيتي، وقد حضر وليمة الغداء الأستاذ الزيد ممن دعوتهم إليها.. وقد تطارحت معه إغفاله - رحمه الله - القصائد «القطيفية» في الطبعة الأولى من ديوان خالد الفرج سنة 1969م المطبوع في المطبعة العصرية بالكويت.
على أية حال ففي قصيدة «حمَّادي» المجهولة، ينساب نفس الشاعر الفرج شفّافاً حزيناً رقراقًا صادقاً وهو يبكي خادمه الفقير «حمادي بن مهدي بن جلال» أحد الفقراء البائسين.. على جانب عظيم من النزاهة.. هذا ما اتسم به غوصه على اللؤلؤ في «هيرات» الخليج ومغاصات لؤلؤه.. فلم يسمح له هذا العمل الشاق بجني شيء من فوائده، بل أوثقه بقيد الدين المهيض، وأودعه في سجن المرض الشاق.. «ولد حمّادي سنة 1310 هـ وتوفي سنة 1350 هـ رحمه الله تعالى.. اهتم لتأبينه وعني بتقريظه الشاعر الكبير والكاتب الشهير خالد بن محمد الفرج الكويتي رئيس بلدية القطيف وقتئذٍ»، هكذا يقول الشيخ فرج العمران رحمه الله في كتاب طريف له مجهول، قليل التداول.. نظراً لمرور وقت طويل على طباعته المحدودة النسخ في النجف، مجهولة التاريخ.. غير أنني أرجح أنه طبع في الخمسينات الميلادية وهو بعنوان «مجمع الأنس».. وفي هذا الكتاب نجد مراسلات شعرية ونثرية بين المؤلف وخالد الفرج.. اتسمت بأسلوب تقليدي مثقل بالمحسنات البديعية.. وأحب هنا أن تكون قصيدته «حمّادي» بين يدي قراء أدب خالد الفرج وشعره، علّها تنبّه الباحثين ونقاد الأدب إلى دراسة شعره، انطلاقاً من دراسة المصادر الشعرية والأدبية التي متح منها شاعرنا، وهي في هذه القصيدة يتبين المصدر الشعري الرومانسي المهجري واضحًا بجلاء.. يذكرك خاصة بقصيدة «الطلاسم» الشهيرة لإيليا أبي ماضي، ومرة أخرى بالشاعر المهجري نسيب عريضة، وثالثة بتلك السلسلة الذهبية التي احتواها كتاب «بلاغة العرب» لمحيي الدين رضا، الذي كان أول كتاب جمع نماذج من الشعر العربي في المهجر.
حمّادي
بكيتُ عليك حمّادي ** كأنك بعضُ أولادي
بكاءٌ عينُهُ قلبي ** ودمع العينِ إنشادي
بكاءٌ كلُّهُ صَمْتٌ ** بلا لطْم وتعداد
وكان الموتُ يفجَعُني** بآبائي وأجدادي
فتغسلُ دمعتي حزني
وتطفئُ لوعةَ الأحـ ** ـزانِ آهاتي وأناتي
وإخوانٌ يعَروني ** بما يأسو جِراحاتي
وإنْ فكّرتُ فالماضي ** يُحَقِّرُ عنديَ الآتي
فأسلو بعد أسبوع ** وأنسَى كلَّ لوعاتي
كأنَّ الأمرَ لا يعني
وأنت قضيتَ لا تدري ** بشيءٍ من خفا أمري
وأنت أَحَبُّ من لاقيـ ** ـتُ أو ناجيتُ في عمري
وما أحبَبْتُ فيك الجسـ ** ـمَ فهو كما ترى مزري
بلى أحببتُ منك الروحَ ** ذاتَ النبل والطهر
مَلاكٌ أنت أم جني
عرفتُ الناسَ أصنافاً ** مئاتٍ بل وآلافا
وَمَنْ خاللتُهُ عمري ** ومَنْ عادى وَمَنْ صافى
فلم أجدِ الذي أدعوه ** بالإنسانِ إنصافا
إذا ما احتطت من وَحْشٍ ** فَخُذْ للناسِ أَضْعافا
وإني منهم إني
يهيجُ البحرُ والزلـ ** ـزالُ والبركانُ بالنار
وَتنْفُثُ سُمَّها الأفعى ** ويعدو الضيغمُ الضاري
فتنجو بابتعادك عن ** مناطق ذات أخطار
ولا تأتي إلى غاب ** ولا تقرُبُ من غار
كفى بالبعد من حصن
ولكنْ أينَ تهربُ من ** بني حواءَ في الأرض
«بغى بعضُهم بعضاً ** فلم يُبْقُوا على بعض»
تجيشُ بهم مطامعُهُمْ ** فمن تَقْدِرُ أنْ تُرضي
يريدُ الفردُ أنْ يبلغ ** كلَّ الطولِ والعرض
لحاه اللهُ من بطن
يقولون اعتدى ذئبٌ ** بقسوته على الضأن
فقل لي من أتى بالضأن ** قد حرست برعيان
وما هو قصده منها ** وأيهما هو الجاني
صَهْ فَالفرسُ وحشيٌّ ** وهذا الذبْحُ إنساني
أَتهذى أنت أم تعني
عتوا في أرضِهم وَهُمُ ** أقلُّ نتاجها عدَّا
فجاسوا جوها صُعُداً ** وخدّوا جوفَها خَدَّا
ومدوْا فوق قشرتها ** من الأسلاكِ ما امتدَّا
فأفنوْا خلقها قتلًا ** وأفنوْا نبتَها حصدا
باسم العلم والفن
ولا تغررك ألفاظٌ ** ترى تعبيرها حلوا
إذا قالوا لك الخيرُ ** فذاك الشرُّ والبلوى
ولا حقَّ سوى العسف ** فإن الحق للأقوى
ولا تنتظرِ الرحمةَ ** إنْ أطنبتَ بالشكوى
ولا منًّا بلا منِّ
وإنْ تَرَى فيهمُ حبًّا ** فللأطماعِ والشهوه
وللإرهاقِ والإجحافِ ** ما في الناسِ من نخوه
ولا عطفٍ ولا حلمٍ ** فَمَنْ ذا تَرتَجي عفوه
أَلَم يغضبْ حَليمٌ ما ** وإنْ لمْ تعْظُمِ الهفوه
أإنسانٌ ولا يجني
هُمُ الليلُ فلا مَنْجَى ** هُمُ الظلُّ فلا مَهْرَبْ
إذا باعدْتهم خبوا ** وإنْ خالطَتهم تَجْرَبْ
وإنْ قاومتهم صَمَدوا ** وحدُّوا النابَ والمخلب
وإنْ سالمَتهم طَمَعُوا ** وصاروا للأذى أقرب
فخذ عني وخف مني
أحمادي وواعجباً ** لحمادي كإنسان
تَرى في جسمِهِ بشراً ** مَجَازاً وهو روحاني
قَضَى من بينهم وطرًا ** ولم يغضبْ على جاني
ولم يطمع بتافهةٍ ** ولم يأسفْ على فاني
بثغرٍ ضاحكِ السِّنِّ
فقير وهو إن تَسْأَ ** له ما في كفه يعطِ
وإن يملكْ «سحاتيتاً» [6] ** فللسنورِ والقطِّ
ولا يعصيكَ في أمرٍ ** بلا أجرٍ ولا شرطِ
وإنْ تأمنْهُ لا تخشى ** على الإبريز والسمط
وإنْ لم تطعه يُثْني
تَفَلسَفَ طبعُه عفواً ** ولم يحفلّ بِذي الدنيا
ولم يعرف أبيقوراً ** ولا كان مَعَرِّيا
ولم يزهدْ ولم يطمعْ ** ولا كان يرى شيّا
وقد أَصْبَح بعد الموتِ ** عندَ الناسِ مَنْسِيّا
وقد واروه بالدفن
في مجلس أحمد بن حسين السنان «أبو عبد الغني». من اليمين الشاعر محمد سعيد الجشي وحسن راشد الغانم والشاعر خالد الفرج ود. أمين نصار وزائر أمريكي وأحمد حسين السنان وعبد الله بن خميس.