وقفات متأملة مع ألفاظ من الذكر الحكيم - ”كُرْسِيُّ“
الوقفة الثانية لفظ ”كُرْسِيُّ“.
كرسي لفظ جامد ليس مشتقًا من غيره ولا هو ضمن مجموعة من الألفاظ المختلفة الأوزان المتحدة في الأصل. ومثله في اللغة العربية ألفاظ كثيرة كأرض وليل ويد وغيرها الكثير.
والكرسي وسيلة صنعت للراحة أثناء الجلوس.
ورد لفظ كرسي في القرآن الكريم في موضعين فقط في الآية 34 من سورة ص ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾. وفي الآية 255 من سورة البقرة ﴿ألله لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ آلْحَىُّ آلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى آلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى آلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا آلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ آلسَّمَٰوَٰتِ وَآلْأَرْضَ ۖ وَلَا ئَُودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ آلْعَلِىُّ آلْعَظِيمُ﴾ وورد في الحالتين مضافًا إلى ضمير الغائب إلا أن الدلالة ليست واحدة في الموضعين بل لا يوجد بينهما أي اشتراك إلا في اللفظ فقط. فكرسي آية سورة ص هو كرسي ملك النبي سليمان بينما كرسي آية سورة البقرة كرسي ملك الله عز وجل.
مما لا شك فيه أنه لا يمكن مخاطبة الإنسان إلا بلغته. لكن لغة الإنسان محدودة معانيها بحدود بيئته. فما الألفاظ إلا أسماء الأشياء التي تقع في نطاق حواس الإنسان وفي أبعد حدودها تصوراته. وهنا تكمن المشكلة بين ضيق اللغة ومحدودية معانيها وبين عجز التصور لدى الإنسان في تصور ما لا يقع في نطاق حواسه.
فعند الكلام عن الله عز وجل تواجهنا هذه الإشكالية: هل الألفاظ التي نستعملها في حياتنا اليومية ونسمي بها أشياءنا ونطلقها على أنفسنا وما يختص بنا صالحة ومناسبة للاستعمال عند الحديث عن الله عز وجل أو عن أمور تتعلق بذاته؟!!!. وهل تؤدي الغرض المنشود وتوصل المعنى الصحيح؟!!
فهل عندما نصف الله عز وجل على سبيل المثال بأنه حي فهل نعني أن حياته كحياتنا؟ أو عندما نصفه أنه سميع وبصير وقوي وملك وغيرها من الصفات فهل نصل فعلًا إلى حقيقة تلك الصفات الإلهية أم أننا نبقى حبيسي تصوراتنا ومعاني لغتنا؟!!!.
آية الكرسي كما تذكر كثير من النصوص الدينية هي أعظم آية في كتاب الله ويستحب تلاوتها في مواطن وأوقات عديدة قبل النوم وعند اليقظة وبعد الفريضة و..... و..
تضع الآية الكريمة السامع في جو المترقب لقادم عظيم الشأن. خذ هذا المثال لتقريب صورة المشهد؛ حشد كبير من الناس مجتمعون في انتظار دخول الملك عليهم أو المرجع الأعلى أو البطل الهمام، فالأنفاس محبوسة والأنظار مشرئبة وفجأة يطل عليهم العظيم.
فالآية الكريمة تبدأ بلفظ الجلالة الله وكفى به رهبة وجلالًا واستحواذا على حواس المتلقي. وتتبعه بنفي مطلق لما سواه ﴿ألله لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾
ثم تأتي بشيء من التفاصيل عنه عز وجل ﴿آلْحَىُّ آلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ مقطع لا تأخذه سنة ولا نوم هو لبيان أن وصفه بالحي لا ينبغي أن يجرنا إلى معنى الحي حسب لغتنا. والقيوم على وزن فعُٓول تفيد القائم بنفسه والمقيم لغيره. وكثيرًا ما جاء في القرآن الكريم الحي والقيوم مقترنين.
إلى هنا كان الحديث عن ذات الله عز وجل ثم يعقب النص بالحديث عن نفوذه وسلطانه ﴿له مَا فِى آلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى آلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا آلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ﴾.
ثم يضع النص عنوانًا لهذا السلطان والنفوذ مستعارًا من عناوين الحياة ”كرسي“. والكرسي رمز الملك والسلطة في لغة المخاطبين. واستعمل النص الفعل وسع ليفيد بأن كل ما في الوجود يقع تحت هذا الكرسي ولكنه لا يحده فهو مجرد في الوسع ولا يصل إلى الحد ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ آلسَّمَٰوَٰتِ وَآلْأَرْضَ ۖ وَلَا ئَُودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ آلْعَلِىُّ آلْعَظِيمُ﴾ وقوله ولا يؤده حفظهما إن هذا النفوذ والسلطان لا تواجهه فيما تحت هيمنته أي مشاكل أو صعوبة أو تحديات وكل ذلك يأتي بغية الارتقاء بفهم المتلقي وللتغلب على محدودية اللغة ولتعزيز قدرات الإنسان التصورية لأبعد من حدود حواسه.