وقفات متأملة مع ألفاظ من الذكر الحكيم - ”يَهِدِّي“
وقفتنا الأولى أمام لفظ ”يَهِدِّي“
ياء مفتوحة يَ ثم هاء مكسورة هِ ثم دال مشددة مكسورة دِٓ ثم ي.
ورد هذا اللفظ مرة واحدة فقط في كتاب الله في قوله تعالى من سورة يونس المباركة ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ - الآية 35.
هذا اللفظ ليس لبنائه نظير بين صيغ الاشتقاق العربية. فلا توجد صيغة على وزن يَفِعِٓل. فلفظ يَهِدِّي لا ماضي منه ولا اسم ولا اسم فاعل. أما الفعل يَهْدِي فماضيه هَدَى وفاعله هادي والاسم منه هَدْي وهُدَى وهِدَاية. والفعل يهتدي الماضي منه اهتدى والاسم اهتداء.
ليس للفعل يَهِدِّي أي حضور في النصوص العربية لا في الشعر قديمه وحديثه ولا في الخطب ولا في كتب الحديث والأدب.
فحسب إطلاعي وهو محدود ومحدود جدًا لم أعثر على نص ورد فيه هذا الفعل سوى هذه الآية الكريمة. لا وجود له لا في نهج البلاغة ولا في كتب الأدعية ولا في كتب الحديث ولا في غيرها على الإطلاق. بل إن هذا الوزن يَفِعِٓل ليس من الأوزان المستعملة فليس هناك لفظ آخر على هذا الوزن سوى ما ورد في سورة يس في قوله تعالى ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ «49»﴾ فلفظ يَخِصِّمُونَ على نفس الوزن. وهذا اللفظ أيضًا لم يرد في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع ولم يتكرر.
وعلى قاعدة إذا اختلف المبنى اختلف المعنى، إذن فمعنى يَهِدِّي يختلف عن معنى كل من يَهْدِي ويهتدي.
فالفعل يَهْدِي يفيد أن فاعله على هُدَى وأنه قادر على هداية غيره. أما الفعل يهتدي فيفيد أن فاعله يستعين بغيره ليكون على هُدى. أما فعلنا ”يَهِدِّي“ ففاعله بين الاثنين فهو قادر على هداية نفسه فقط.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ - الآية 35.
سورة يونس من السور المكية. والآية الكريمة التي ورد فيها هذا اللفظ يَهِدِّي هي ضمن مجموعة من الآيات التي تجعل المتلقي «المُخَاطَب» يحاكم نفسه بنفسه ويحكم على عقلانيته بعقله ثم ينصف نفسه من نفسه.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾؟ أنتم أيها المخاطبون أحيبوا بجواب لا تخادعون فيه أنفسكم. وجوابهم حتمًا لا، وبإقرار من هم. إذن لماذا تجعلونهم شركاء لله الذي يهدي إلى الحق؟!!! ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾. وبعد هذه المقدمة يأتي فصل الخطاب ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
أين هو العقل الذي يحكم بتساوي القادر على هداية الآخرين بذلك العاجز عن هداية نفسه ما لم يسعفه غيره بالهداية؟!!!!.
والشركاء المعنيون يبدو من سياق الآيات وآيات أخرى كثيرة أنهم من البشر وليسوا من الجمادات كما ذهب بعض المفسرين أن الشركاء المعنيين هي الأصنام التي كانت تعبد. فلم تكن الأصنام سوى غلاف يتخفى من ورائه مجموعة من شياطين الإنس يستغلون الدين لبسط سلطتهم على الناس وعلى أرزاقهم ومعاشهم، ويبنون حياتهم المترفة على شقاء وتعاسة عامة الناس بعد أن يدينوهم أديانًا ظاهرها رحماني وباطنها شيطاني.
وتختلف الشركاء من مجتمع لآخر ومن زمان إلى آخر وربما اختلفت عناوينها وتنوعت الأصنام التي تتوارى بها.
ويجدر بنا ونحن في رحاب هذا الشهر الكريم أن نحاسب أنفسنا ونعيد تقييم ذواتنا في أفكارها وعلاقاتها مع الآخرين وفي دورها في الحياة.
الهدى يتعلق بالمنهج الذي تقوم عليه الحياة من منطلقاتها إلى غاياتها. أما الرشد فيتعلق بالسلوك. فليس كل من كان على هدى هو رشيد وليس كل رشيد على هدى.