هل ما زالت جارتي تحب ”اللقيمات“؟
أتذكرها عندما كنا صغارا، كانت تأتي والدتي قبيل أذان المغرب في أيام شهر رمضان، وكانت تساعدها في إعداد ”اللقيمات“، كانت تقول لها أنا لم آتي لمساعدتك؛ لأني أريد أن آكل ”القيمات“ وكنا حينها ننظر إلى بعضنا البعض في مشهد لم يغب عن ذاكرتي، وبعدها بثوان تتعالى ضحكاتنا وتمتزج بضحكات والدتي وجارتنا.
استمرت جارتنا في المجيء إلينا، لتمارس هذه العادة سنويا مع والدتي - حفظها الله -، حتى كبرنا ورأينا كيف قلت زيارة جارتنا لنا سنة بعد أخرى، وأصبحنا نفتقدها، فسألت والدتي: لم تعد ”أم أحمد“ تأتي كالسابق لمساعدتك في إعداد ”اللقيمات“ كما كنا أيام مضت ونحن صغارا؟ قالت لي والدتي: الأيام تمضي بنا وأنتم تكبرون كما يكبر أبناؤها ومسؤوليات الأسر تتعدد ومشاغل الحياة كثيرة يا بنيتي.
ليست جارتنا الوحيدة التي توقفت عن هذه العادة، فغيرها الكثير تغير بتغير الزمن وتغيرت كذلك بعض من العادات التي اعتدنا على رؤيتها في شهر رمضان، فالكثير من البيوت لم تعد مفتوحة كما لم تعد ”الصواني“ تدور في حلقة تبادل بين الجيران كما في السابق خلال نهار شهر رمضان، ولم تعد المساعدات بين الجارات متاحة.
نفتقد نحن أبناء جيل الثمانينات من القرن الحالي إلى طرق الأبواب وسماع ابن أو ابنة الجيران تقول: ”تفضلوا هذه نغصة لكم من بيتنا“ كما نفتقد اكتظاظ الشوارع بالأطفال قبيل المغرب، ذاك يلعب كرة قدم وآخر يحمل صحنا ذاهبا به إلى بيت جيرانه، وأخرى تودع صديقاتها وتواعدهم بالعودة بعد الإفطار، وهكذا نسترجع صورا كثيرة، غابت عن العيون وعلقت في الذاكرة فقط، صورا باهتة يتمنى أي من أبناء ذلك الجيل وسابقه أن تعود ولو صورة واحدة منه بشغفه وحلاوته ونكهته المعتادة.
جارتنا ”أم أحمد“ لم تفقد شهيتها ”للقيمات“ بكل تأكيد، وإنما أفقدها رتم التغيير في المجتمعات وسرعة وتيرة الأحداث في هذه الحياة، نكهة البساطة في العيش ومعاشرة الجيران كالأهل، متأكدة أن القلوب لا تزال بيضاء محبة، وبأن الأرواح مشتاقة، وبأن ”أم أحمد“ ما زالت تحب ”اللقيمات“.
كيف نعيد جزء من تلك العادات السابقة؟ بل كيف نعيد شغفها إلى أبناء الجيل الحالي؟ هل نحافظ على ما تبقى منها في ذاكرتنا ونمارسها ولو بطريقة مختلفة متعصرنة وممتزجة بحداثة الأيام التي تعيشها، ونكون أمسكنا العصا من منتصفها لا نكون قد كسرناها ولا نكون قد أمسكنا بكلتا طرفيها، وبذلك سعينا وقاربنا من القلوب ومازجنا من الأرواح ما يمكن لها أن تتمازج وتتقارب بالحد الذي يرسم في قلوبنا البهجة ويرضي ذواتنا، وبأننا ما زلنا بخير ولم ننس جيراننا وأحبتنا ومجتمعاتنا بعاداتها وتقاليدها الجميلة؟!
أم نستسلم للحداثة والانفتاح الذي أبعدنا كثيرا عن أبسط أنواع السعادة التي كنا نستشعرها في سلام جار علينا، أو في زيارات أهل مفاجئة، أو في مساعدات كالتي كانت ”أم أحمد“ جارتنا تقوم بها مع والدتي ومع بقية جاراتها؟
يجب ألا نرضخ لواقع فرض نفسه علينا فلم يعد يعرف الجار عن جاره أبسط مناسباته، أو حتى متى كبر أبناؤه، وقد تفاجأه دعوة في يوم من الأيام لحضور حفل استقبال مولود لهم عبر تطبيق من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي!
يجب أن ندير رحى الحياة كما نشاء وبالطريقة التي لا نفقد معها ذكرياتنا وعبق عاداتنا القديمة ولو بأحدث الطرق، تدوم وتبقى بشكل مختلف ولا تنقطع.