شهر رمضان حمية الجسم وغذاء الروح
قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾
كل فرض أمرنا الله تعالى به لا يُقصد فيه التعبد للخالق وحسب وإنما له فوائد عدة تتجلى للمخلوق عند فعلها بإخلاص محكم التطبيق.
وعندما كتب الله على بني آدم الصوم فقد أراد لعباده أن يصِلوا لمقام التقوى عندما تتخلص النفس من الرغبات المادية البهيمية وتصل للمقام الروحي النقي عن طريق التعبد والتخلي عن الرغبات، فيظهر حينها التجلي حتى تبلغ النفس الإنسانية كمالاتها وبهذا كان الصوم طريقاً لشفاء الأبدان من المشاكل المرضية وشفاءً للنفس من الأمراض المعنوية.
وفي الوقت الذي كان فيه المسلمين في حداثة السن يؤدون الصيام كفريضة منذ وقت التكليف بأدائها، فقد أقر الغرب مؤخراَ فوائد الصيام على مختلف الجوانب الصحية والمعنوية على البدن والعقل والروح، ويدعون له ويستحدثون أنظمة غذائية بإسم الصيام المتقطع وأصبح هذا العنوان مثيراً للجدل ومحط اهتمام الكُتاب الغربيين والباحثين في الدراسات والأبحاث العلمية.
وبهذا فإن الصوم هو حمية يحتاجها الجسم كل فترة لما له من تأثير فعال في الحفاظ على الصحة البدنية والنفسية.
وكما قال طبيب العرب خالد بن كلدة مقولته الشهيرة: «الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء»
ونتيجة لذلك توالت الدراسات العلمية لبحث أهمية الصيام وفوائده على مختلف الأصعدة الجسدية والمعنوية.
حيث يساعد الصيام في تنشيط العمليات الأيضية، لأن الجسم يبدأ باستخدام الدهون المخزنة كمصدر رئيسي للطاقة بدلاً من اعتماده على جلوكوز الدم، كما يسمح الصيام للمعدة بفترة وجيزة من الراحة وهذا التكنيك من شأنه تعزيز كفاءة الهضم فيؤثر على نشاط حرق الدهون والتمثيل الغذائي في الجسم خصوصاً لمن لديهم مشاكل في الجهاز الهضمي.
وبالتالي فإن الصيام محفز للعملية الأيضية ووسيلة أمنة لنزول الوزن مالم يتم التعويض بالإفراط في الأكل عند فترة الفطر.
يلعب الصيام دور كبير في تقوية جهاز المناعة وتنظيف خلايا الجسم من السموم والفضلات وذلك عن طريق حث الجسم على عملية الإصلاح الخلوي ومقاومة الإجهاد التأكسدي، فعندما يصاب الشخص بالإجهاد التأكسدي أي وجود خلل في توازن نشاط الجذور الحره ومضادات الأكسدة في الجسم فيزداد لديه عدد الجذور الحره مما يؤدي إلى تلف البروتينات والأحماض النووية عند تفاعلها معها مما يضعف مناعة الجسم فيكون فريسة للالتهابات والأورام السرطانية.
أما عملية الإصلاح الخلوي أو المعروفة بالإلتهام الذاتي هي عملية التخلص من السموم والنفايات الموجودة في الخلايا عن طريق إزالة بقايا البروتينات التالفة التي تراكمت في الخلايا مع مرور الوقت، ثم يتم تخزين بدلاً منها الأحماض النووية والميتوكوندريا التي تقوم بصنع المادة الكيميائية المنتجة للطاقة في خلايا الجسم. كما يتم من خلال عملية الإصلاح إعادة صنع مواد الهياكل الخلوية بالليزومات.
وبعد معرفة الفوائد المهمة لعملية الإلتهام الذاتي، فالسؤال هنا كيف للصوم أن يساعد في تحفيز نشاطها؟
إن عملية الإصلاح الخلوي والإلتهام تنشط عادةً في فترة النوم وممارسة الرياضة وعند الإحساس بالجوع لساعات طويلة أيضاً. إن الجسم يعتمد في إصدار الطاقة على الجلوكوز الموجود في الدم وعند نفاذه يتم استخدام مخزون الجلايكوجين في الكبد وعند استهلاكه أيضاً يتم الانتقال لاستخدام الكيتونات التي تُصنع في الكبد من الأحماض الدهنية، وفي هذه المرحلة الأخيرة تنشط عملية الإلتهام الذاتي وهذه المرحلة الكيتوزية لا يتم الوصول لها إلا بعد فتره من الانقطاع عن تناول الطعام خلال اليوم والذي يتمثل من خلال الصيام.
وبالتالي فإن الصوم يساعد في حماية جهاز المناعة من الأمراض عن طريق إزالة النفايات وتذويب الخلايا المريضة والمحافظة على السليمة منها لإعادة صنع المواد الخلوية الجديدة.
أثبتت الدراسات أن للصيام دور كبير في خفض مستوى الإنسولين في الدم وتقليل مقاومة الجسم له وزيادة مستوى حساسيته فيصبح للإنسولين حينها فعالية عالية في تنظيم مستوى الجلوكوز في الدم، وهذا يساهم في الحماية من خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني.
ومن شأن انخفاض مستوى الإنسولين مساهمته في زيادة مستوى هرمون النمو «HGH» والناقل العصبي «Norepinephrine» والتي تساهم بدورها في تحفيز تكسير دهون الجسم وحرق المزيد من السعرات الحرارية. ونتيجة لذلك فإن الكثير من الرياضيين يلجؤون للصيام كوسيلة للحصول على جسم مثالي بنسب منخفضة من مستوى الدهون للتأهيل للدوريات والمباريات.
يلعب الصيام دور مهم في تعزيز وظائف الدماغ والصحة العصبية عن طريق تحفيز إنتاج بروتين التغذية العصبية «BDNF» والذي يعمل بدوره كمنشط للخلايا الجذعية في الدماغ ويحولها لخلايا عصبية جديدة، ويساعد في إفراز المواد الكيميائية التي تحافظ على صحة الخلايا العصبية ونتيجة لذلك فإن هذا البروتين يحمي من الوقوع في مشاكل الاكتئاب وبعض الأمراض العصبية كالزهايمر وباركنسون.
ولم تقتصر فوائد الصوم على الجوانب الجسدية وحسب وإنما تفرعت لتطال الجوانب النفسية والروحية أيضاً. لأن الصيام يساهم في تعطيل عملية الهضم بشكل مؤقت، وبما إن الجهاز الهضمي هو أكثر أنظمة الجسم استهلاكاً للطاقة فإن الصوم حينها يُدخل الجسم في وضعية توفير الطاقة لاستهلاكها مع أنظمة الجسم الأخرى بما فيهم الدماغ فيصبح أكثر وعياً وصفاءً وخلاقاً في التفكير وممتناً لكل ما يحيط به فينعكس ذلك بشكل إيجابي على جميع أجهزة الجسم الأخرى.
وكما قال الرسول الكريم ﷺ: ”لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام“.
فليس الصيام هو صيام البطن وحسب وإنما هو صياماً للقلب والعقل واللسان حتى نزكي فيه قلوبنا بالصفاء ونزكي عقولنا بالمعارف ونزكي ألسنتنا عن بذاءة جارح القول, وبما أننا الآن في ضيافة الرحمن على ضفاف شهر البركة والنور أما آن الأوان لأن نتجنب الإفراط في الأكل ونبتعد عن الملهيات والرغبات!!
حتى ننظف أجسامنا من الأمراض والسموم ونصفي قلوبنا من الران والذنوب ونعرج بأرواحنا في طهارة النور بأذكار السحر والقنوت.