تأَملاتٌ في تناهيدِ الفجرِ
1. لِتصحو أَجساد وأَبدان فُلول الأَناسِي النائمين؛ وتَستيقظ مَعهم تِباعًا، جُموع ثُلة الأَصحَاء المتأَمِّلين، بفَائق أَذهانهم، ورَائق عُقولهم، على تَناهيد، وأَهازيح، ونِداءات أَبواق الفجر الحالمة الناهضة بوَقع زَحف أَطياف نُعومَة ولُدونَة أَقدامها الرمادية البِكر؛ بعد أن أَقفل النائمون - بطيب خَاطِر، واستمتاع وَافِر - مُسلسل زخم أَحلامهم الوردية... وتسلَّمت سِراعًا جِهارًا ”ثلة الأَصحاء“ النابهين، إِهداءً سَخِيًا تامًا، ونالت استحقاقًا أَريحيًا مَاثلًا، أَصيلين، مُتأَبطين بمعِية مُفتاح يومٍ جِديدٍ؛ تمامًا، كما يَتأَبط، برفق وأَناة، الشخص الخَارِج المُغادر مِن فِناء مَنزله مفتاح مَركبته الفاخرة، وجِهاز هَاتفه الأَنيق، ومَحفظة نقوده الحُبلى… ليُشارك ويُبارك مُتصابيًا مُداعبًا، تناهِيد الفجر المُنتشية مِن حَوله توًا، داخل أَسوَار نَسيج كَبسولتِها الهَيفاء الشاعرية؛ والمُنداحة انسجامًا، في سَائر أَجواء ومَرافق مَنزله النضِر العَطِر؛ ليظفر بلُبَاب وعُبَاب أَوج استنشاق المزيد مِن أَندى رَشفات ”الأُوزُون“ الصباحية النقية، التي أُهْدِيَت له، بفيض سَخاء؛ وقُدِّمَت لِعنايته بكرم إِعطاء؛ لتَسمو، برِفدها المَرفود؛ وتعلو رِفعةً وإِنالةً، إلى جَنبات ذُرَى مَراقي سَماحة فِكره المُتيقظ؛ وتَتنامى مُتوجةً زاهيًةً بتاج حِجا بَصيرته الوقَّادَة… وهُناك، تُقْدَحُ أَصالة وأَريحية، شَرارة غُرة يومه النشط، المُستبشر، بقُدرة التدبير، ومَشيئة التوفيق الإلهيتين المُسددتين معًا؛ لبدء رِحلة مِشوار عمل يومه المعتاد، بمَدار ”وَسامة وقَسامة“ عَقارب الساعة المُتساوِقة المُتسارِعة، بتناغُم وتناسُق ذاتيين؛ والمُتصرمة هُنيهاتها؛ والمُتتابعة لَحظاتها الساخنة الساحبة، والتي تَمر بمَواكبها الحُرة، في مَساراتها الجُدَدِ الملونة، كَمِر ومَشي كُتل السحائب الداكنة المُتراكمة، بلا رَيث، ولا عَجل!
2. ويلي بَاكورة نشاط وَهِمة ذلك الاستيقاظ المُبكر، جَاذبية الاستماع المُنصِت المُمتِع، إِلى جُمل ودِيباجة الأَذان الروحانية المُتناغِمة، بعُمق المَعنى، وبُعد المَرمَى، ووَساعة مِهاد التأمُّل المُتيقظ، في فِيوء صَحوة فَساحة الفجر الدافئة المِضياف، بكامل هَمس وهُتاف رَشاقة صحوة الحَواس الشاخِصة الحَاضرة؛ والمُؤيدة ببصيرة الفِكر النافذة… ”لتنضح وتنداح“ مَندوحة أَريحيتهما، برهِيف سَماحة رُوح المُسلم المُؤمن، والمتدبر المتأَمل تِباعًا؛ وتتنامى بفيض رَوحَانية قريحتهما النورانية انسجامًا، بصفاء ونقاء، هُنيهات التوجهه الروحاني الذاتي، إِلى أداء وإِسداء الواجب الرباني العبادي، بإِقامة رُكن الصلاة المفروضة؛ وإِتيان جَوهر الطاعة الموقوتة، انصياعًا وامتثالًا؛ لأَمر خَالقة ومَولاه، ربُّ العِزة والجَلال، والمُتصرِّف بأمور خَلقه المُتعال، في كل الأَحوال؛ والمُنزِل الغَيث المُغِيث، مِن أَعماق بُطون المُزن الثِّقال… فالصلاة التعبدية المفزوضة، هي سِلاح المؤمن الصقِيل، ووَسِيلة مِعراجه الروحي الدائم إِلى مَلكُوت رَبه؛ لِينال بثوابهما الأَوفى، أَسمى الدرجات العُلا؛ ويتداول بمقامهما الأَجَل، أَنمى أَرصِدَة الفلاح المُثلى، في خَالص وصُراح أَعِنَّة المَراقي الروحية المُبتغاة… عَلاوة على أَنَّ الصلاة المَفروضة رِياضَة أَبدان، وتهذيب وِجدان، إِلَّا أَنَّ أَداءها الذاتي المُنتظم، في ذُروة صَحوة أوقاتها المُحددة المعلومة؛ يَنال بفضلها الكريم العبد المتعبِّد؛ ويَندى بإِنعامها العميم، الرضِي المَرضِي، مَن لَدُن خَالقه، ومُدبر أَمره، ورَازِقه، مِن وَسِيعِ ومَهيَعِ فضله؛ وسَابغِ عِلمه، وواسِعِ إِحسانِه؛ ويَغمره بهِباتٍ مُترعة، مِن أَوفى غِنى عَطائه الوافر المُنجي، في شِدة زِحام يوم الفَزع الأَكبر… ولِعظمة الخالق المُوجِد أندى ينابيع الطَّوْل؛ ولِفائق عِزته، وعَظيم جَلاله، أَعظم مَقاليد صَادق القول، وأَنبل مَبلغ الحِوَل: «اتلُ ما أُوحِيَ إِليك مِن الكِتَابُ وَأَقِم الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاة تنهى عَنِ الفَحْشّاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكرُ اللهِ أَكْبُرُ واللهُ يَعلَْمً مَا تَصْنَعُونَ».
3. وبعد أدا الصلاة المكتوبة، وتِلاوة عَطِرة مِمَّا تَيسر مِن آي الذكر الحكيم؛ وقِراءة بعضٍ مِن الأَذكار والأَدعية المَأثورة عِندها، تَتفنح أَبواب الرزق - بإِذن الله تعالى - وتَصحو سَائر مَخلوقاته المُتعافِية مِن هَجعَة سُباتها، وهَجدَة رُقادها: مِن سَائر وطَائر؛ وسَابح ونَابح؛ وزَاعق ونَاعق... في رقاع وَجه البسيطة؛ وفي أفق عَنان السماء الوسِيعة؛ ومِثلهن مَن يَسبَح، بإِذن ربه تعالى، في خِضم بُطون البحار؛ ويسبِّّح، بحَمده وعَظمته، في سَائر قِيعان المحيطات والأَنهار… وبُعَيد تباشير الفجر الحالم، تستيقظ أَسراب الطيور الحَالمة مِن أَعشاشها المُترفة، وفي أَجواء جاذبة مِن مَحافل الفرح، ومُلتقيات السعادة؛ لتحتفل طويلًا، بغرة الصباح المُختال الضاحِك، مُستبشرة بأَرزاقها المَقسومة؛ وتَجوب الوديان، والمُروج المُزهرة؛ وتَحط فوق، بْسط السطحات الخضراء؛ وفوق رُؤوس الآجَام الكتيفة؛ وتَستهل بأَريحية، أَجمل حَفلات أَعراسها، أسرابًا وجَماعاتٍ مُتواكبة مُترابطة... وفي غَمرة تلك الأَجواء المُفرِحة البَهيجة، يهفو وِجدان ومَشاعر المُستيقظين المُتأَملين مِن بني البشر ليتأَملوا رَهِيف وحَثِيث، تلك الممارسات النشطة الجماعية، لِأَجمل صِغار المخلوقات؛ ليزدادوا إَيمانًا، وتبصرًا، وتدبرًا في أَلطف مخلوقات الله المُتآلفة المُتصافية، بعيدًا عن أَزمة المُشاحنات، ورُزء المُنابذات، وبَغضاء المُباعدات؛ وإِنَّ مُقدرات ومُخَصصات أَسهم الحياة السعيدة مُقسمة على شُخوص الأحياء؛ لينال كل واحدٍ نصيبه المَقسوم المَحتوم... وكذا أَسراب الأَطيار المُستبشِرة، في طُول وعَرض دِفئ الشواطئ النورانية، وفوق حَبات الرمال العَسجدية الأَخَاذة؛ وفي بطون حُقولها المُزهرة، ومُنحدرات أَوديتها المُبهرة برمَّتها؛ لتَهفو، وتَندى وتَحتفي ولهًا، بآفاق وأَكناف الجَنائن الغنَّاء، بتباشير وترانيم أَعطر مَنظر، وأَنضر مَظهر، إِلى قدح زِناد أَسمى وأَندى درجات المشاركة الوجدانية البشرية الشاملة؛ وتتصَعِّد أَنبل أَنغام أَعراسها الشادية البِكر ذاتيًا، إِلى سُذة أَحضان مَبلغ سَماحة، ومُنتهى أَريحية ومشاعر النفس البشرية قاطبة… تلك المُتلازمة الثلاثية الجذلى؛ بطَلعَة ثَوبها القشِيب الجاذِب؛ وطَلَّة زَهوها الباهر الفاخر، وحَماسة عزم هِمتها المُتساوِقة المُترافِقة: تناهيد الفجر الحالِمة؛ وأَداء الصلاة الواجِبة؛ ومَواكب شتى مِن المخلوقات؛ تتقدمها ”فيالق“ أَسراب الأَطيار المُستبشرة بدِفئ وجَمال أَمتع شواطئها النورانية مُجتمعة؛ لتَسمو سَاعِيةً لَاهِيةً شموخًا؛ وتَرنو إِلى مَعارج جَوهر ارتقاء الروح؛ وتَهفو مَاضية سائحة بلُباب كُنهها الرباني، إِلى مَدارج مُيسَّرة، ومَصاعد أَعالٍ سَامية، ومَعارج مَلكوتية؛ تتطلَّع جميعها، بأَهلية استخلاف الإِنسان - المخلوق في أَحسن تقويم - عزُا وكرامةً وشهامةً، فوق قِمم رَوَابي مَواطن، وسُفوح أَودية وشواطئ أَديم ”أُمِنا“ العامرة المعمورة، ودَليلُنا قول الخالق عزَّ وتبارك: «هَذَا خَلْقُ اللهِ فأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِِهِ بَلِ الظَّالِمِوُنَ فِي ضَلَالٍِ مُبِينٍ».