نحو استثمار أفضل لليلة القدر
إنها ليلة عظيمة، ليلة جليلة القدر، وكيف لا تكون كذلك وقد أنزل الله فيها قرآناً، بل أنزل سورة قرآنية خاصة بهذه الليلة المباركة ألا وهي سورة القدر.
إنها ليلة يتصل فيها العبد بربه، بل هي ليلة الضيافة الإلهية لمن أراد أن يلبي نداء الله ويحل ضيفاً عليه، وهي ليلة عظمت في السماوات والأرض. إنها حقاً عيد الرحمة، فمن تعرض لها فقد حظي بأجر عظيم [1]
و لنا أن نتساءل: كيف يمكننا أن نستفيد من هذه الليلة المباركة، وما هو البرنامج الصالح الذي يمكننا من خلاله أن نحقق بعض المكتسبات من هذه الليلة؟
في حقيقة الأمر أنه تمر علينا المناسبات العظيمة والتي تحمل معها الأجر العظيم، والتي تعتبر محطات تصحيحية في ذواتنا ومجتمعاتنا إلا أننا وبسبب الجهل لهذه المناسبة فإنها تمر علينا دون أي تفكير في الاستفادة منه ومن خيرها.
و هكذا بالنسبة لليلة القدر مع عظمتها ومكانتها فهي «خير من ألف شهر» إلا إنها تبقى كغيرها من سائر الليالي لا تتميز إلا بممارسة بعض العبادات الدينية كالصلاة الجماعية!!
و لهذا ولكي نستفيد من ليلة القدر علينا أن نعيها أولاً، وما ترمي إليه من مضامين وآثار ثانياً، ثم نسعى لتحقيق هذه الآثار في ذواتنا. وقد ورد في فضل ليلة القدر العديد من الروايات نذكر منها:
قال سليمان المرزوي للإمام علي بن موسى الرضا : ألا تخبرني عن ﴿إنَّا أنْزلْنَاه في لَيْلةِ القَدْر﴾ في أيّ شيء اُنزلت؟ قال: يا سليمان؛ ليلة القدر يقدّر الله عز وجل فيها ما يكون من السنّة إلى السنّة، من حياة أو موت، أو خير أو شرّ، أو رزق. فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
سئل الإمام محمد الباقر عن ليلة القدر، فقال: تنـزّل فيها الملائكة والروح والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة وما يصاب العباد فيها. قال: وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيّة، يقدم منه ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، وهو قوله تعالى: «يَمْحُو الله ما يَشَاء وَيُثَبّت وَعِنْده أمّ الكِتَابْ» [2] .
و لكي نستفيد من ليلة القدر نذكر بعض النقاط الهامة في هذا المجال:
و أعني بها أن تكون مستعداً روحياً ونفسياً وفكرياً لهذه الليلة، وأن توفر في ذاتك عوامل الاستفادة، وأن تكون على أتم الاستعداد للقاء الله تعالى.
و في هذه الليلة ينبغي على الإنسان أن يقف مع ذاته ويحاسبها محاسبة دقيقة، لينظر في ذاته أين مكامن الخطأ أين نقاط الضعف في شخصيته؟
لماذا ارتكب هذه الأخطاء؟ وإلى متى سيسير على هذا المنوال؟ ألم يأن لهذا الإنسان أن يقف لحظة واحدة ويفكر في ذاته؟!
و في هذا الصدد يقول الرسول الأكرم ﷺ: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، وتزودوا للرحيل قبل أن تزعجوا، فإنها موقف عدل، واقتضاء حق، وسؤال عن واجب، وقد أبلغ في الأعذار من تقدم بالإنذار».
و عن الإمام الصادق : «فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن أمكنة القيامة خمسون موقفاً، كل موقف مقام ألف سنة» ثم تلا هذه الآية ﴿في يوم كان مقدراة خمسين ألف سنة﴾» [3] .
في هذه الليلة تفتح أبوا ب السماء، وتنزل الملائكة بالرحمة على المؤمنين المتهجدين بالأسحار، الذين يتخذون من هذه الليلة معراجاً إلى الله.
لهذا فإن أفضل وقت يعلن فيها الإنسان عن توبته ويعترف إلى الله عن ذنبه ويطلب منه العفو والمغفرة هو في هذه الليلة، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى ينادي كل ليلة، من أول الليل إلى آخره: ألا عبد مؤمن يدعوني لدينه ودنياه قبل طلوع الفجر فأجيبه، ألا عبد مؤمن يتوب إليّ قبل طلوع الفجر فأتوب عليه... «وفي حديث آخر إن الله تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة، في الثلث الأخر، وليلة الجمعة من أول الليل، فيأمر فينادي:» هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فاغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، ويا طالب الشر أقصر " فلا يزال ينادي بذلك، حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء [4] .
و يقول ربنا مخاطباً المؤمنين: «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار...» التحريم /8
لهذا لتكن هذه الليلة هي ليلة التوبة، والندم على الماضي وعلى كل تقصير بذر منا.
وفي هذه الليلة أيضاً ينبغي أن يكون لساننا لهجاً بذكر الله والاستغفار، وأن يكون هذا الاستغفار نابعاً من أعماق القلب، وهذا الأمر يكون على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الجماعي بأن تعقد مجالس الدعاء.
و من الأدعية المطلوب قراءتها في هذه الليلة قراءة الجوشن بكل فصوله، وقراءة دعاء أبي حمزة الثمالي، وأدعية السحر وأن تكون كلمات الدعاء محركة لمشاعرنا، مغيرة لذواتنا، ولترافق هذه الكلمات دمعة فقد قال رسول الله ﷺ: «من خرج من عينه مثل الذباب من الدمع من خشية الله، آمنه الله به من يوم الفزع الأكبر» وقال الإمام الصادق : «إن لم يجئك البكاء فتباك وإن خرج مثل جناح البعوضة فبخ بخ» [5] .
تعيش مجتمعاتنا حالة من الكسل الروحي، حالة من الابتعاد عن الله تعالى، وذلك بسبب الهجوم الإعلامي المركز والمكثف والهادف إلى تمييع حالة التدين في مجتمعاتنا.
و لهذا فإن مثل هذه الليلة العظيمة تكون بمثابة جبهة مجابهة لهذا الطوفان وهذا المد الغاشم، ولهذا فلا بد من تركيز الجهود وبذل قصارى الجهد في تحويل هذه الليلة وإحياءها بالذكر والعبادة.
و في حقيقة الأمر إننا بحاجة لانتفاضة روحية عارمة تقتلع جذور الانغماس في الماديات وملاهي الحياة، وهذا لا يتحقق إلا عبر إشاعة أجواء الدعاء في كل بيت، والتفاعل مع برامج الدعاء لأن في ذلك استجابة لنداء الله حيث يقول ربنا: «ادعوني أستجب لكم» ففي ذلك سعادة المجتمع، ولا نكن ممن يعر ض عن ذكر الله فتكون النتيجة ﴿و من يعرض عن ذكر ي فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ طه / 124
«وهي بعد ذلك ليلة السلام الذي يغمر الكون، ليلة تفيض فيها رحمة الله وإحسانه ونعمه على الخلائق وتستمر حتى طلوع الفجر» [6] .
فإذا كانت هذه الليلة بهذه العظمة وهذه المكانة فلماذا لا نستفيد منها الاستفادة الكبرى؟ لماذا نكتفي بقضاء ساعة محددة نقضيها في الصلاة وبعض الأعمال الواردة بشأن هذه الليلة؟
وليس صحيحاً أن تمضي علينا مثل هذه الليلة دون التفكير في تغيير شخصياتنا؟ وإعادة صياغتها من جديد؟
من هنا نقول أن هذه الليلة بحاجة إلى وعي من جديد والتفكير في إعداد برنامج روحي يتميز بالقوة في الطرح، وكذلك تهيئة الأجواء الاجتماعية لاستقبال هذه الليلة الاستقبال الأمثل. وأن لا نكتفي بساعات معينة بل لتكن سلام هي حتى مطلع الفجر.