لون، وتأثير. الهام، وتغيير
الفن أوسع وأشمل من رسومٍ وألوانٍ على صفحةٍ بيضاء، أو ألحانٍ وكلمات، فالفن يظهر في عدّة أشكال، فن الأدب، العروض، الالقاء، الطهي، العمارة، الخياطة، وكذلك الكتابة، جميعها فنون، ومن كثرتها لا تعد ولا تحصى، هي محاطة حولنا من جميع زوايا وجوانب الحياة، وأيضًا بينما أنت تقرأ هذا المقال فأنت حاملًا بيدك قطعة فنية أي أن الأجهزة فنٌ بحد ذاتها.
من الممكن أن يصبح تعريف الفن معقد بعد شمل هذه المجالات كافة من ضمنها، ولكنها بسيطة وتتلخص في أنها تعابير وتطبيقات لمهارات - بعض الأحيان مواهب - ناتجة عن خيال وإبداع العقل البشري، عادة ما تُقَدم في شكل مرئي وهذه الأعمال في الغالب تتضمن رسالة يريد الفنان إيصالها، وهي معروفة بتأثيرها العاطفي علينا كمستقبلين، لكن ليس من الضرورة تأثير عاطفي، فهي أيضًا باستطاعتها أن تؤثر على المستقبِل فكريًا، وتتحكم في ردود أفعاله.
الانطباع المأخوذ والمتعارف لدى المجتمعات عن الفنون وخصوصًا اللوحات الفنية على أنها تغذية بصرية، حيث تنص الفكرة النمطية أن المقصد من جميع الأعمال الفنية هي المتعة اللحظية للبصر، إلا أن الفنون ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقل والروح.
فن الطهي كمثال، يحسن الروح المعنوية لدى الطاهي ولدى المتذوق كذلك. الأدب من خلاله يتصل القارئ روحيًا وعاطفيًا مع أفكار وطريقة سرد الكاتب، والفاعلية قد تكون دائمة ومختومة في قلب وذاكرة القارئ. الرسم يستخدمه الرسامون كوسيلة لاستجلاء وعرض القصص والقضايا الهامة في شكل فني سهل الفهم، علاوة على ذلك يساعد المشاهدين الذين تخصهم هذه القضايا والتجارب المماثلة التي مرروا بها بالانتماء والتقدير.
عظيم الفن كيف له لغة خاصة به لا تهتم بطائفة، ديانة، أو فئة عمرية محددة، جميعنا قادرين على فهمها دون حصص تعليمية، أو دراسة متواصلة، وغير ممكن تحقيق أي مِن هذه النتائج دون النية والعزيمة من الفنان نفسه في صنع هذا التغيير سواء كان على النفس أو المستقبِل.
وسائر هذه النتائج تعود للأسباب والدوافع التي جعلت الفنان يصنع هذا الفن مِن الأساس، وهذه الدوافع تختلف اعتمادًا على الشكل الفني والرسالة المراد ايصالها. الفنون المرئية، سواءً كان الأسلوب واقعي أو مباشر، أم كان فن سريالي فهو يشرح فوق ما تصعب الألسنة التعبير عنه، وهنا تأتي مَهمة الفنان في استخدام خياله والمفاهيمية التي يستطيع هو منها تجسيدها في صورة تصعب على العقول استيعابها، وهذه قطعًا صفة مذهِلة عن الفنون.
ومن البديهي أن الفن ليس سوى قطعة جامدة - بالمعنى الحرفي - على العكس هو يتمتع أيضًا بالديناميكية، والحركية كالرياضة والعروض والتمثيل والموسيقى، والفاعلية على الأرجح مشابهة للفنون غير الحركية عدا مشاعر الحماسة والانفعال من الصَّخب والحيوية الصادرة مِن هذا الشكل خصوصًا.
نقيسها على محبي كرة القدم، أثناء مشاهدة المباراة فهُم يدمُجون بين تقدير حركات اللاعبين والتشوق لنتائج اللعب، في الجانب الآخر الفن ”الجامد“ يحتوي الصمت أكثر والتأمل لإدراك المعاني التي المبهمة لبعض المشاهدين، على أن اللوحات الفنية تحوي الديناميكية، ليس فقط بالحركة الفعلية، ولكن من حيث وجهات النظر، يتضح أن كل من يرى العمل ينظر له باختلاف عن البقية حسب عوامل عديدة منها الخلفية، وطريقة التفكير.
من المميزات الموجودة في الفنون هي المكونات التي صَنعت هذه التحف الفنية، من الطبيعي أغلبها لم يصنع من العدم، فهي ألوان ومشاعر وطاقات وتعابير ورسوم وأشكال وحركات كلها متحدة، يجمعها الهام واحد، وتختلف طبعًا حسب الشكل الفني. الإلهام مراِجعه شتّى كالطبيعة، المشاعر، الكتب، الحوارات، والذكريات، وأحيانًا الأعمال الفنية الأخرى تلهمهم في ابتكار أعمال مختلفة تمامًا، لها كيانها الخاص. يمكن لنحات نحت تمثال والالهام يكون مصدره من كلمة قيلت له، ونجد مخترع يصنع جهاز بسبب أمنية تمناها وهو صغير يريد تحقيقها.
أبرز خصائص الفن هي المرونة، خاصية كالشبكة المعقدة والواضحة في الوقت ذاته، حيث إن كل شكل فني ليس له علاقة ثابتة مع ألوان محددة والهام محدد، أو شكل ثابت يجب الالتزام عليه، تُدمَج مع ماديات طبيعية، تقنية، هندسية. باهر للغاية أن جميعنا نرى تصنيع الفن بشتًى أشكاله بلامحدودية، في ازدهار وتطوير مستمر.
علّي ذكر دور وتأثير الألوان علينا، في الأزياء أو الديكورات أو اللوحات وغيرها...، الألوان لها دلائل محلية وعالمية، وهي أيضًا نسبية وليست مطلقة، كاللون الأبيض في الصين يُلبَس في الجنازات، عكس الثقافات الأخرى اللون المضاد وهو الأسود. في القرن السادس عشر اللون الأبيض كان يُلبَس من قِبَل النساء غير المتزوجات، وفي عصرنا الحالي العكس. الألوان تتغير معناها حسب السياق، على سبيل المثال، اللون الأحمر يرمز للغضب، الحب، التحذير، الحماس جميع هذه المعاني تختلف حسب صياغة ورسالة الفنان.
وهناك ما يسمى بالعلاج بالفن، وهي مهنة تكاملية يؤديها معالج فني محترف هدفها تحقيق السلامة الشخصية والعلائقية، وتعزيز احترام الذات والوعي الذاتي، وتقوية البصيرة، وتنمية المرونة العاطفية والمهارات الاجتماعية، وحل النزاعات من خلال صنع الفن النشط، والعملية الإبداعية، والنفسية التطبيقية، في إطار العلاج النفسي، وأفادت الكثير من مستخدميها في حياتهم. أي أن بدلًا من النطق اللفظي وإبداء المعالَج مشاعره بلغته، فهو يستخدم لغة الفن، تشرك العقل والروح والجسد، كذلك تستدعي الفرص الحركية والحسية والإدراكية، وأنماطًا بديلة من التواصل الاستقبالي التعبيري، فهي وسيلة نافعة جدًا للصُم والبُكم كونهم غير قادرين على إبداء مشاعرهم لفظيًا، ووجود أطباء نفسيين غير قادرين على التواصل معهم بلغة الإشارة.
العلاج بالفن مفيد أيضًا للأطفال، تعودهم على اتخاذ القرارات الصحيحة، والاستفادة والتعلم من الأخطاء المرتَكبة، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، والتعرف على الذات، وللوالدين أيضًا تتاح لهم فرصة التعرف على طفلهم، كل هذا يتحقق مِن صنع عمل بسيط، وبدون شك الاتصال الكلامي مهم في هذه الحالة أيضًا.
نستنتج أن الفن يقترح لنا حلول، يزودنا بالقوة ويحفزنا، هو وسيلة للاسترخاء والامتاع، كذلك يمدنا بمعلومات وافرة في جميع النواحي بطريقة مسلية وسهل فهمها مهما كان مستوى ذكاء المتلقي، إذا تم استخدامه بالشكل الصحيح طبعًا!، لما لا نتواصل معنويًا أكثر مع الفنون لنجرب فعاليتها علينا، فلا أحد يريد حياة خالية من الألوان الزاهية، أو رحلة دون تحديات وحيل، تضيف مذاق التشويق لها، بالإضافة للوعي الاجتماعي عن الحياة ومجالاتها كافة.
وأخيرًا بعد مرور مدّة من عدم اكتراث المجتمعات بالفن، شعور جميل جدًا رؤية الفن يحصل على الاهتمام المستحَق، غمرتني السعادة عندما بدأت الفنون العربية ولا سيما أعمال الفنانين السعوديين بالانتشار، وتقدير الشعب له سواء كان الأسلوب الفني يبرز الثقافة السعودية أم مبادئ مغايرة خاصة بالفنان.