آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

تعزيز التسامح الديني

الشيخ حسن الصفار * صحيفة الشرق الأوسط

عانت مجتمعاتنا لزمن طويل من وجود تيارات تعصبية متشددة، تدعي احتكار الحقيقة الدينية، وتمارس وصايتها على الناس، وتسعى لإلغاء وإقصاء من خالفها.

وتنطلق هذه التوجهات من سوء فهم للدين، أو سوء استغلال لعنوانه من أجل الهيمنة والتسلط على الآخرين.

وقد عرقلت هذه التوجهات مسيرة التنمية في مجتمعاتنا، وكرّست حالة التخلف، بالتحفظ تجاه كل جديد، ومخالفة أي تطوير، والتشكيك في أي انفتاح على معطيات العلم وتجارب الحياة.

فقد حرّموا التعليم، خاصة تعليم البنات، وقاوموا أي مشاركة للمرأة في مجالات الحياة العامة، وحرّموا التصوير والابتعاث للدراسة في الخارج، ووسائل الإعلام كالتلفزيون وكل ألوان الفن والترفيه، بل حتى بعض وسائل المواصلات كالدراجات الهوائية.

وفي غفلة من الزمن تغلغلت هذه التوجهات في مختلف المواقع، وامتلكت النفوذ والتأثير.

وأسست لحالة الانقسام المجتمعي برفضها الاعتراف بالتنوع الديني والمذهبي والفكري، واتهامها سائر مكونات المجتمع بالكفر والشرك والابتداع والضلال.

وسعت إلى حرمان الوطن من الاستفادة من طاقات وكفاءات بعض أبنائه، بالتشكيك في دينهم وولائهم، حيث كان هؤلاء المتعصبون يصنفون الناس حسب مسطرتهم، ويفصلّون الوطن على مقاسهم، فأنتج ذلك ردّات فعل سلبية في بعض أوساط تلك المكونات الاجتماعية، دفعتها للانكفاء والانغلاق، والشعور بالغبن والحرمان، مما أعطى الفرصة للمتربصين والمغرضين الأجانب أن يخترقوا أمن مجتمعاتنا ويثيروا فيها الفتن والاضطرابات.

وقد وقع القسط الأكبر من الضرر على قيم الدين ومبادئه السامية، التي غُيبت وجرى تجاهلها، كقيمة العدالة والمساواة والرحمة والتسامح والكرامة، وحلت محلها أفكار التشدد والتطرف والقسوة والعنف، مما شوّه سمعة الدين على المستوى العالمي، ونفّر منه جمهوراً واسعاً من أبنائه.

وإذا كانت هذه التيارات المتشددة من السُنة والشيعة قد أضرت بكل أوطان ومجتمعات الأمة الإسلامية، فإن بلادنا قد أصابها ضرر كبير، ودفعت ثمناً باهظاً، لأنها كانت الأكثر استهدافاً من الأعداء للنيل من سمعتها ومكانتها القيادية في الأمة.

من هنا تأتي أهمية المواقف الجريئة التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، حفظه الله، ضد هذه التوجهات المتطرفة في مناسبات متعددة، كان آخرها المقابلة المهمة مع مجلة «ذا أتلانتيك».

هذه المواقف التي تعبّر عن مسار ومنهجية تعتمدها قيادة الوطن، تبشر بعهد جديد من التسامح، وتحقيق مفهوم المساواة في المواطنة، وتعزيز الوحدة الوطنية.

ومن تلك المواقف التي أطلقها ولي العهد على هذا الصعيد قوله: «إن ما حدث هو أن المتطرفين اختطفوا الدين الإسلامي وحرفوه، بحسب مصالحهم، حيث إنهم يحاولون جعل الناس يرون الإسلام على طريقتهم، والمشكلة هي انعدام وجود من يجادلهم ويحاربهم بجدية، وبذلك سنحت لهم الفرصة في نشر هذه الآراء المتطرفة المؤدية إلى تشكيل أكثر جماعات الإرهاب تطرفاً، في كلٍّ من العالمين السني والشيعي».

وقال في مقطع آخر من المقابلة نفسها: «الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس السعودية، فالسعودية لديها المذهب السنّي والمذهب الشيعي، وفي المذهب السنّي توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لأحد هذه المذاهب ليجعله الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية، وربما حدث ذلك أحياناً، سابقاً؛ بسبب أحداث قلتها لكم من قبل، خصوصاً في عقدَي الثمانينات والتسعينات، ومن ثم في أوائل القرن الحادي والعشرين، لكن اليوم نحن نضعها على المسار الصحيح». ««الشرق الأوسط»، 3 مارس/ آذار 2022»

إن هذا الخطاب وهذه المواقف هي مصدر فخر واعتزاز لأبناء الوطن، بل لأبناء الأمة، نسأل الله أن يوفق قيادة الوطن لتحقيق هذه التطلعات الحضارية الرائدة.

إن من شأن بلادنا أن تكون في موقع الريادة للتسامح الديني، ذلك أن الدين الذي نزل به الوحي في ربوعها يؤسس لهذا التسامح ويبشر به. وقد خطت بلادنا خطوات واثقة على هذا الطريق، فاهتمت بحوار أتباع الأديان، وأسست مركزاً عالمياً لهذه المهمة، كما تكثف الآن رابطة العالم الإسلامي نشاطها المؤثر على هذا الصعيد، بخطاب إنساني جديد، ينسجم مع عالمية الإسلام وحضارية مبادئه.

إن ديننا الإسلامي يعترف بوجود أتباع مختلف الأديان، ويذكرهم في نفس السّياق مع أتباعه.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة، الآية: 62] وتكررت هذه الآية بنفس الألفاظ في سورة المائدة الآية: 69.

فالمعيار هو الإيمان بالمبدأ والمعاد ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والمواطنة الصالحة ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا.

أما الاختلاف في تفاصيل العقائد والشرائع بين أتباع الأديان والمذاهب فهو أمر طبيعي اقتضته الحكمة الإلهية في الخلق.

يقول تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. [سورة المائدة، الآية: 48]

فالحياة أرادها الله ميداناً يتسابق فيه أبناء البشر بمختلف دياناتهم ومذاهبهم، لإنجاز الخيرات، ولا ينبغي أن تشغلهم خلافاتهم الدينية عن التطلعات لكسب الخير وإنجازه، من أجل إعمار الأرض، وتطوير الحياة، وسعادة الإنسان، وعندما يرجع البشر إلى الله يوم القيامة هناك يكون الحسم والفصل في الخلافات الدينية.

وقد وردت في القرآن الكريم آيات عدة تؤكد أن حسم الخلافات الدينية لن يتم في هذه الدنيا، وإنما هو مؤجل للآخرة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. [سورة الحج، الآية: 17]

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. [سورة السجدة، الآية: 25]

وفي آيات أخرى جاءت عبارة يحكم بينهم، كقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. [سورة البقرة، الآية: 113]

إن على المختلفين في أديانهم ومذاهبهم، أن يبحثوا عن مواقع الاشتراك والتوافق، لينطلقوا منها في ساحة التعايش والتعاون، لخدمة المصالح المشتركة، يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. [سورة آل عمران، الآية: 64]

وهنا لا بد من التأكيد على أمرين:

الأول: أن نتلاحم مع قيادة الوطن لإنجاح هذه المسيرة الرائدة على طريق التسامح الديني، وتجاوز آثار العهود السابقة، التي تحتاج إلى شيء من الوقت، والتحلي بالحكمة والصبر، فترسبات تلك الأفكار الظلامية لا تزول بين عشية وضحاها، كما لا تخلو المواقع والمراكز من وجود مَن لا يتجاوب مع توجهات الدولة فيمارس العنصرية والتمييز بين المواطنين لأغراض شخصية أو فئوية، لكن الأمل وطيد في جهود مؤسسات الرقابة والنزاهة، التي تدعمها الدولة بكل قوة وحزم، لكشف الفاسدين والعابثين بمصالح الوطن والمواطنين، في كل المواقع والمؤسسات الرسمية، وفي القطاع الخاص.

فلا مكان في السعودية الجديدة للممارسات الطائفية، والتفرقة العنصرية، والتشكيك في أديان الناس وولاءاتهم.

الثاني: إن علينا أن نرتقي بالخطاب الديني والثقافي في أوساطنا ليكون داعماً ومواكباً لهذا التوجه الوطني الريادي نحو التسامح الديني والاجتماعي، وألا نرضى بأي خطاب عنصري أو طائفي يتسلل إلى منابرنا وأجوائنا، فتراثنا السني والشيعي متأثر بأوضاع العصور والبيئات التي أنتجته، وفيه الغث والسمين والنافع والضار، فعلينا سنة وشيعة أن ننتقي من تراثنا ما يتوافق مع القيم الأساس في الدين، وما يعزز وحدة المجتمع والأمة، ويخدم مصلحتنا الحاضرة في حماية أمن واستقرار أوطاننا، وتنمية مجتمعاتنا، وألا نقبل بطرح ما يثير الفتنة والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.

إن على الخطباء والدعاة والمثقفين من السنة والشيعة أن يتجاوزوا الانشغال بالجدل المذهبي العقيم، والتعبئة الطائفية، وأن ينشغلوا ببث الخطاب الوحدوي التنموي، الذي يدفع أبناءنا للطموح العلمي والتميّز العملي، والكمال الأخلاقي، والخدمة لمجتمعهم ووطنهم.

خطيب وكاتب سعودي «القطيف»