حقوق الطفل في الإسلام
جاء في الأثر «وحق الصغير رحمته في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له»..
من الطبيعي القول: إن الطفولة بوصفها مرحلة يعيشها الإنسان، لها أبعادها وتأثيراتها المتعددة في بناء شخصية الإنسان وغرس الصفات الخيرة فيه. فالتعامل الحسن مع هذه المرحلة العمرية، يفضي إلى خلق عنصر فاعل ومنتج على المستويين الخاص والعام..
أما إذا كان التعامل سيئاً وبعيداً عن مقتضيات حفظ كرامته ومتطلباته الحياتية، فإننا سنساهم في خلق كائن إنساني مشوه نفسياً وغير مستقر أخلاقياً واجتماعياً..
من هنا فإن الاهتمام بالطفل روحاً وجسداً، مبنى ومعنى، يعد من الضرورات الاجتماعية والإنسانية الأساسية، التي تساهم في استقرار الأسر والمجتمعات. ومسؤولية تربية الطفل وترقيته نفسياً وأخلاقياً وتربوياً وصحياً، ليست مسؤولية الأسرة وحدها، وإنما المجتمع عبر مؤسساته التربوية والاجتماعية والإعلامية والحقوقية، يتحمل مسؤولية أساسية في هذا السياق.. حتى يتحقق التناغم المطلوب بين البيئة الأسرية والبيئة الاجتماعية. وحتى يتكامل الاهتمام النوعي بين النواة الأولى للمجتمع ومؤسساته الأخرى..
وإن أي خلل على هذا الصعيد سينعكس سلباً على الطفل وعلى البيئة الاجتماعية الحاضنة لحركة الطفل في مستوياتها المتعددة..
ومن خلال الرؤية الإسلامية والنظريات التربوية الإنسانية، نستطيع القول إن هناك مستويين في تربية الطفل وتنشئته:
1. المستوى الوقائي: الذي يحول دون وقوع الطفل تحت التأثيرات السلبية، التي قد تنشأ من نقاط ضعفه الإنسانية أو من طريقة تفكيره أو تأثير بيئته الأسرية، أو من المجتمع الذي يعيش فيه الذي قد تؤثر انحرافاته ومشاكله على الطفل في حاضره ومستقبله.
2. المستوى البنائي: والذي يستهدف بناء الإنسان الحي والحيوي والمتوازن في حاجاته المادية والمعنوية.
فمرحلة الطفولة تتطلب أن ينخرط الطفل في اللعب واللهو، وينبغي أن تتوفر في البيئة الأسرية والاجتماعية كل الأسباب المفضية إلى ذلك. وأي تقصير في هذا السياق سينعكس سلباً على تكوين نفسية الطفل..
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن الاهتمام بالأطفال تربوياً ومؤسسياً وحقوقياً، هو أحد معايير تقدم المجتمعات والأمم.. فالمجتمعات التي لا تعتني بالطفولة، ولا تبني مؤسسات متميزة للاهتمام والرعاية والتنمية، هي مجتمعات متأخرة ومتخلفة، حتى لو تجلببت بجلباب التقدم، وادعت أنها تمسك بناصيته. أما المجتمعات التي تسن القوانين الحامية للطفولة، وتبني المؤسسات التربوية الحاضنة لهم، فهي مجتمعات متقدمة، حتى ولو لم تملك الثروات الاقتصادية الهائلة.. فالأمم المتقدمة هي التي تهتم بأطفالها تربوياً ومؤسسياً وحقوقياً.
وعليه فإننا ينبغي لنا كمجتمع أن نقيس مدى تقدمنا من خلال هذا المعيار المهم والحيوي.. لأنه وببساطة شديدة إهمال الطفولة يعني إهمال المستقبل.. وكل أمة تهمل مستقبلها هي أمة متأخرة حتى لو امتلكت كل سلع التقدم والحضارة..
ونود في هذه الورقة، أن نقترب من مفهوم وحقيقة حقوق الطفل في الرؤية الإسلامية، لأننا نعتقد أن تظهير وإبراز التصور النظري لهذه المسألة هو الخطوة الأولى في مشروع تجسيد هذه الحقوق وحمايتها من كل الأخطار والتحديات..
فالطفل ونظراً لطراوة عوده، بحاجة إلى الحياة الدافئة الهانئة، التي تقتضي الاهتمام بحقوقه النفسية والبدنية وبصحته وغذائه ونموه، وتلح هذه الحاجة عندما يكون الطفل أعجز نسبياً من أقرانه، كالمريض أو المعوق أو اليتيم.
وهو بحاجة بسبب تدفق طاقته إلى اللعب، وإشغال أوقات الفراغ بالترفيه. وكي يعتاد الحياة الاجتماعية والتعاون مع الآخرين كان الطفل بحاجة للعيش في أسرة تحضنه ويشعر فيها بالحنو، ليتولد عنده العطف، فيمنحه هو بدوره فيما بعد لمن حوله وللآخرين. وهو بحاجة لبناء شخصيته العامة، وأول شروطها أن يتمتع باسم ووطن كغيره من الناس، يعتز به ويدافع عنه..
وحتى يعيش حياته الروحية والقيمية، هو بحاجة إلى الدين فيؤمن به ويتعرف على حقائقه ويمارس شعائره وطقوسه..
وسيواجه الطفل الحياة بظروفها المعقدة والمتشابكة، لذلك تنبع ضرورة تعليمه وإعداده بالطرق الإنسانية المناسبة وضرورة تسهيل التعليم والتثقيف أمامه، ليستفيد من تجربة مجتمعه المختزنة في عقله الجمعي..
هذه العناصر كلها ضرورات من أجل طفولة سعيدة وسليمة، وهي القادرة على أن تمدنا بأجيال صحيحة البنية جسدياً وعقلياً وروحياً.
لذا حاول الدين الإسلامي تلبية هذه الحاجات عبر تشريعها وحث المؤمنين على الالتزام بها.. كما نصت على هذه الحاجات الوثائق الدولية المتعلقة بحقوق الأطفال ولا سيما «اتفاقية حقوق الطفل» التي تبنتها الأمم المتحدة في عام 1989م.
1. حق الحياة: يحترم الإسلام حق الحياة، ويعتبرها من المقدسات التي ينبغي عدم التفريط بها، وشدد الدين الإسلامي على عدم قتل الأولاد بسبب الفقر إذ يقول تبارك وتعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم﴾[الأنعام 151].
وفي الفقه الإسلامي العديد من الإشارات التي تؤكد على ضرورة صيانة حق الحياة.. فالحاكم المسلم يجب أن يمتنع كما يقرر الفقه الإسلامي عن إعدام الأم الحامل في أي ظرف من الظروف، بل ويمتنع أيضاً عن إعدامها بعد الوضع خوفاً على ولدها من الموت بسبب عدم الرعاية والاهتمام. فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم إحدى النساء التي وجدها مستحقة عقوبة الإعدام بأن «اكفلي ولدك حتى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردى من سطح ولا يتهور في بئر.».
وحتى يكون هذا الحق بالحياة مكفولاً، كان لا بد للطفل من تأمين حقه بالرضاعة، ذلك الحق الذي يستمر مبدئياً «حولين كاملين».. وبعد الرضاعة يتكفل الأهل بالحضانة حتى يستغني الولد عن خدمة النساء. وقد حدد الفقهاء سن الاستغناء بالسابعة للصبي والتاسعة للبنت. وبعد هذا يكون الولد تحت مسؤولية الولي أو الوصي، حتى سن البلوغ وهو الذي ينفق عليه. وعند امتناع الملزم بالنفقة عن توفير ما يلزم، فإنه يجبر على ذلك. وإذا كان الولد لا ولي له، فإن الإسلام يسمح باللجوء إلى التكفل بناء على الحديث الشريف القائل: «أنا وكافل اليتيم في الجنة»..
ويمكن أن تكون نفقة الطفل على الدولة. فقد كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يفرض لكل مولود عطاء يزاد إلى عطاء أبيه، وكلما نما الولد زاد العطاء، والأمر نفسه ينطبق على الطفل اللقيط.
فحق الحياة يقتضي الحضانة والكفالة والإقامة في مؤسسات مناسبة لرعاية الطفولة. وحق الحياة يستدعي بالضرورة الحفاظ على الصحة وهي من واجبات الولي. وإذا كان عاجزاً تتحمل الدولة عبر مؤسساتها الصحية حق الطفل بالصحة.. وحتى يتوفر ذلك للطفل، لا بد من توفيره للأم الحامل.. والطفل المعوق هو الأكثر حاجة للمساعدة والرعاية والتأهيل.
2. حق النسب: يقول تبارك وتعالى: ﴿ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله﴾ [الأحزاب/ 5] يفرض الإسلام على الوالدين، ليس فقط تسمية ولدهما، بل أن يحسنوا اختيار الاسم. فقد جاء في الحديث الشريف «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه». ويلحق بالنسب الجنسية. فيحق للولد أن يحصل على جنسيته والده ووالدته.. وينبغي لكل القوانين المعمول بها أن تكون منسجمة وهذا الحق الأصيل..
3. الحق بالتربية والتعليم والمعاملة الحسنة: إذ يؤكد الدين الإسلامي وعبر توجيهات عديدة على هذه الحقوق ويعتبرها من واجبات الأب نحو الابن. فقد جاء في الحديث الشريف «أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها فله أجران».. «ليس منا من لم يرحم صغيرنا»، «اكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم». ويرسم الإسلام منهج كيفية تعامل الوالد مع الولد بقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: «أن يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره».. وفي سياق المعاملة الحسنة، تأتي حرمة جميع أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية والعقلية أو الاستغلال الجنسي والعملي.. ويمكن في هذا السياق الحديث عن صيانة حقوق الطفل في زمن الحروب، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بعدم قتل الطفل، كما كان يرفض تجنيده في الجيش.. إذ يقول: «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة».
4. المساواة بين الجنسين: لأسباب عديدة، تقع الكثير من الأسر في خطأ التفضيل وعدم المساواة بين أطفالها من البنين والبنات، مما يؤدي إلى ممارسات تمييزية تتعرض إليها الطفلة مما ينعكس سلباً على نفسيتها وسلوكها الخاص والعام.. بينما نجد أن الدين الإسلامي أولى عناية خاصة بمسألة المساواة بين الجنسين. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اعدلوا بين أولادكم»، وقال: «اعدلوا بين أولادكم في العطاء».. أما إذا كان لا بد من التفضيل في مجال الهدايا فلتفضل البنات. إذ يقول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: «ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء».
5. الطفل والقضاء: حين استقراء موضوعات الفقه الإسلامي المتعلقة بالطفل، نصل إلى النتيجة التالية: أن الإسلام يحمل المسؤولية المدنية عن أعمال الطفل إلى الأهل، أما المسؤولية الجزائية فيتحملها الطفل نفسه. غير أن العقوبات لا بد أن تكون مخففة، فأفعال العمد التي يأتيها الطفل يجري التعامل معها كأنها خطأ. ويشترط ذلك أن يكون الطفل مميزاً «أي فوق السابعة» لأن غير المميز لا يعاقب.
وجماع القول: إن الإسلام يولي اهتماماً خاصاً بالطفل، وتدعو توجيهاته إلى حمايته منذ تكونه في رحم أمه، مروراً بولادته وحضانته ورعايته وتأهيله حتى مرحلة الشباب والفتوة..
1» إن ردم الهوة بين المثال والواقع، بين الوعد والإنجاز، هو مسؤوليتنا جميعاً. فينبغي ألا نكتفي بأن تكون قيمنا رائعة، وإنما المطلوب أن يكون واقعنا رائعاً أيضاً.. وينبغي أن نواجه حاضر الآخرين الحقوقي براهن حقوقي مماثل، يصون الحقوق ويبدع في احترامها وتقديرها. وآن الأوان بالنسبة لنا جميعاً للعمل من أجل ردم الهوة بين المثال والواقع على الصعيد الحقوقي.
2» ندعو إلى صياغة وثيقة وطنية، تنص على حقوق الطفل، وتبلور الإجراءات القانونية الكفيلة بحماية الطفل وتوفير كل أسباب الحياة الكريمة له. وينبغي أن تنص هذه الوثيقة، على كل الحقوق الخاصة بالطفل التي شرعها الدين الإسلامي وأقرتها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وبالخصوص الوثائق الدولية المتعلقة بحقوق الطفل.
3» إضافة مادة حقوق الإنسان في مناهجنا التعليمية والتربوية، وذلك حتى يتربى المواطن لدينا وعبر المراحل الدراسية المتعاقبة على هذه الحقوق. كما أننا نهيب بوسائل الإعلام المختلفة للاهتمام بهذه المسألة، لأنها أحد روافع المجتمع لتعزيز أمنه واستقراره على مختلف الصعد والمستويات.
4» إننا في مجتمعنا اليوم، وفي ظل تصاعد وتيرة العنف الأسري التي نسمع عن أحداثها بكثرة هذه الأيام ويكون الأطفال أول ضحاياها، أحوج ما نكون إلى قوانين وإجراءات لحماية الطفولة في مجتمعنا.. وإن هذه المسألة بحاجة إلى تضافر كل الجهود من أجل منظومة قانونية متكاملة تحمي الطفل في مجتمعنا من كل الأخطار والتعديات.. وهذه المنظومة من الضروري أن تتوسل بالوسائل الاجتماعية والثقافية والإعلامية والإجرائية، التي تؤهلها لكي تتحول إلى واقع مؤسسي ملموس، تحمي الطفل والطفولة، وتساهم في تطوير البيئة الوطنية الحاضنة لهذه الشريحة الاجتماعية المهمة والعزيزة على قلوبنا جميعا.