آخر تحديث: 4 / 12 / 2024م - 9:38 م

رحلة في أعماق النفس

البحث في جوانب النفس مهم لتحقيق سعادة الإنسان واستغلال طاقاته الكامنة ومعالجة بعض الاضطرابات النفسية التي قد تسبب كوارث فردية ومجتمعية. لكن هذا البحث صعب للغاية فهو يتعامل مع جوانب متعددة ومعقدة جدا، يختلط فيها الجانب العلمي التجريبي بالجانب الذاتي التفسيري، لذا قد تصبغ خلفية الباحث الأيدلوجية نتائج البحث بطابع يتناسب مع أفكاره وعواطفه السابقة.

إن لمحة سريعة على نظريات علم النفس تكشف نتائج مبهرة لكنها تعكس أيضا تعارضا شديدا، فمثلا:

• يرى فرويد «في مدرسة التحليل النفسي» أن طبيعة النفس هي الصراع والعدوانية والغريزية ويركز على ماضي الفرد وطفولته المبكرة،

• بينما يرى كارل روجرز «مدرسة النفس الإنسانية» أن طبيعة النفس هي الإيجابية والتطلع إلى تحقيق الذات فيركز على الحاضر والمستقبل،

• يلعب اللا وعي الدور المهم في تحديد حالة النفس وسلوكها في مدرسة التحليل النفسي،

• بينما تتجاهل المدرسة السلوكية اللا وعي وتركز على البيئة، وترى أن السلوك هو استجابة نفسية نتيجة تأثير مثيرات داخلية وخارجية،

• المدرسة المعرفية ترى أن الاستجابة النفسية ليست مباشرة بل تحدث بعد عمليات معرفية تتمثل في تقييم المثيرات وإدراكها عقليا واسترجاع الذاكرة والخبرة السابقة وتقرير الاستجابة المناسبة إزاء المثير.

من الواضح أن كلّ مدرسة ركزت على جانب مهم لكنها أغفلت جوانب أخرى، فحققت نجاحا في علاج بعض الاضطرابات النفسية ووضعت تصورا خاصا عن السلوك، لكنها تعارضت مع المدارس الأخرى وعجزت عن إدراك النفس كاملة.

هل نحتاج إلى نظرية متكاملة في علم النفس تحلّ هذا التعارض وتعطي فهما أكثر دقة وموضوعية عن جوانب النفس الإنسانية؟ يذكرنا هذا بنظرية أرسطو وبطليموس في مركزية الأرض فقد عاشت ألفي عام لأنها لبـّت بعض الحاجات، حيث أصدر علماء الفلك آنذاك زيجات تتنبأ بشروق الشمس وغروبها وحركة الكواكب وتغير الفصول السنوية، لكنها لم تجب على أسئلة مهمة مثل حركة بعض الكواكب والتي كانت تسرع أحيانا وتتباطأ أخرى فلذا سميت بالكواكب المحتارة، حتى جاء كوبرنيكوس وأثبت مركزية الشمس ووجد حلولا علمية لحركة الكواكب مؤذنا بميلاد عصر جديد من علم الفلك.

فهل نحتاج إلى نظرية جديدة تؤذن بميلاد عصر جديد في علم النفس؟ نظرية تدرس أعماق النفس الإنسانية، والإطار الفكري للسلوك والإنجاز وجوانب أخرى.

نظرة في أعماق النفس الإنسانية:

• الحياة تقوم على قوى الإنسان المختلفة: الجسدية والفكرية والاجتماعية والغريزية والغضبية والروحية. فكل إنسان يستخدم قواه البدنية في عمله، وتفكيره في تخطيطه، وعلاقته الاجتماعية للعمل مع الآخرين، وغرائزه الحياتية كالطعام والشراب لضمان حياته، والغضبية ليتنافس ويتدافع مع بقية البشر، والروحية إذ نراها واضحة بصور متعددة. هذه القوى قد تدفع في اتجاهات متناقضة، فالغريزية مثلا تسعى وراء اللذة السريعة بينما الفكرية والروحية تتطلع إلى اللذة البعيدة المدى، والغضبية تدفع للتنافس مع الآخرين بينما تسعى الاجتماعية لتوثيق العلاقة بهم، لذلك تحتاج النفس إلى توازن هذه القوى المختلفة، فكيف يتحقق هذا التوازن؟

• تتأثر النفس بالوراثة والبيئة، فالإنسان يرث جيناته ومستوى أسرته الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والظرف الذي ولد فيه زمانيا ومكانيا، ويتأثر ببيئة الأسرة وتربيتها وأقرانه ومجتمعه ومدرسته وتخصصه وعمله،

• علاقة الفرد بالمجتمع: يعيش الإنسان في تجمعات أسرية وقبلية ومجتمعية وتخصصية، وكل تجمع له أعرافه وعاداته وقيمه التي يتربى عليها فتكون عقله الجمعي، لكنه في نفس الوقت يفكر ويختار ويتصرف، إذن فعلاقة الفرد بالمجتمع لا تسلب منه الإرادة وحرية الاختيار، بل تعتمد على شخصيته فهل يمارس دوره كلاعب مؤثر في المجتمع، أو يستسلم كاملا لإرادة المجتمع، أو يمارس لعبة الشد والجذب؟

• تملك النفس الإرادة في الاختيار، لذا فهي مسؤولة لأنه لا معنى للإرادة بدون مسؤولية. لكن الفرد مسؤول أمام من؟ هل هو مسؤول أمام ضميره وهذا لا يحقق الأثر، أو أمام مجتمعه وهذا يضعف دوره التغييري ويسلبه حريته؟ إذن أمام من ستكون المسؤولية؟

• هل طبيعة النفس غالبا إيجابية أو سلبية؟ تعيش النفس حبا شديدا لذاتها، فتنزع غالبا للنتيجة المادية السريعة، حيث تسعى لإشباع غرائزها وتحقيق مصالحها المادية على حساب الآخرين، لذا فهي تحتاج إلى توازن دقيق يحقق حبها الحقيقي لذاتها دون أن يضحي بمصالح الآخرين وبالأهداف البعيدة المدى، فكيف يتحقق هذا التوازن؟

• تعلم النفس جيدا الماضي والحاضر لكنها لا تعرف شيئا عن المستقبل، بل تتفاجأ بالكثير من الأخبار السيئة عن موت الآخرين والكوارث الطبيعية، مما يجعلها في قلق وجودي شديد. هذا القلق يسلبها السعادة والطمأنينة فهو تهديد دائم بتغيير سريع في هذه الحياة، فسؤال ماذا يحدث بعد الموت يعتبر مصيريا لتحقيق السعادة،

• إذا كانت النفس في سعي حثيث لتحقيق المزيد من الأهداف المادية الأنانية وإشباع الغرائز، فستعاني من عطش لا ترويه الغريزة، لأن هذه الأهداف سرعان ما ينتهي زهوها فتستمر النفس في لهث دائم وهي تظن أن ذلك يحقق سعادتها، بينما هي تلهث وراء سراب لا يروي عطشها. إذن فالهدف المادي لا يحقق السعادة، بل لا بد من جانب معنوي يسعى لتحقيقه الإنسان، فما هو؟

• هل الدافعية للعمل إشباع الغرائز؟ هذا لا يفسر الإيثار والبطولات والحضارات. أو الدافع للعمل تلبية حاجات مادية حياتية أو تحقيق الذات؟ هذا لا يفسر الإيثار والعمل لأجل الآخرين. أو الدافع للعمل استجابة لمؤثرات بيئية؟ هذا لا يوضح دور الإنسان فيها. إذن لا بد أن تتكامل الدافعية مع المسؤولية وتوازن القوى والأمور الأخرى، فكيف يكون ذلك؟

• الإرادة قد تنكسر أحيانا، فتتعطل الخطط وتنتهي الطموحات نتيجة التنافس والتدافع البشري والتغير السريع، فكيف يمكن للنفس أن تواصل السعي رغم الصعوبات؟ كيف يمكن لهذه الطاقة الدافعة أن تستمر بكل قوة وإصرار؟

• تتأثر النفس بالماضي والحاضر والمستقبل، فكيف يمكن للنفس أن تتغلب على سلبيات الماضي وتفتح صفحة جديدة؟ هل هناك وسيلة لتصحي المسار وطمأنة الضمير ومعالجة التأنيب النفسي الشديد؟ لا يمكن للنفس أن تحس بالراحة إلا إذا وجدت وسيلة مناسبة للتكفير عن خطيئة الماضي والانطلاق بنفس مطمئنة نحو المستقبل، فما هي هذه الوسيلة؟

• زعم فرويد أن الدين مرض عصابي أحتاج له الإنسان كحيلة دفاعية ضد الموت ومشاكل الحياة فالإله يلعب دور الأب في العائلة، فهل هذا صحيح؟

لا نهدف هنا إلى إثبات الخالق والرسل والكتب السماوية، بل سنحاول معرفة ماذا يستطيع الدين أن يحققه في أعماق النفس الإنسانية:

o الإيمان بخالق له أعظم صفات الكمال والجلال فهو العالم الكريم الرحيم القوي الحبيب، فهو مثل أعلى كرّم الإنسان وخلقه وحمّله مسؤولية الخلافة وإعمار الأرض، بل وخلقه قادرا على أن يتحلى بصفات الكمال والجمال، وأودع في نفسه قطرة صافية جميلة، وجعله حرّا يختار طريقه في الحياة، هذا التسامي والتكامل نحو هذا المثل الأعلى الذي ليس لجماله حدود هو المعنى الحقيقي لحياة الإنسان،

o الإيمان بالحياة الآخرة التي يرى فيها الإنسان جزاء أعماله الدنيوية من الجنة للمحسنين والنار للمسيئين، فيتحقق فيها الحب الحقيقي للذات، فكل إيثار أو بطولة دنيوية تعتبر رصيدا عظيما للنفس في العالم الآخر، فالأعمال الصالحة تكتب حسنات تؤهّل للجنة بكرم الله فهي تعزز الأعمال الصالحة، وكل سيئة يتم رصدها والتهديد عليها لوأدها والقضاء عليها. هذا يوضح مسؤولية الإنسان فهي أمام الخالق ونتيجتها السعادة الدنيوية والأبدية في جنات الخلد،

o لم يترك الخالق الإنسان تائها بل أرسل الرسل والأنبياء ومعهم الأوصياء الذين بلغوا الكتب السماوية والتشريع الإلهي فهم قدوة للبشر في أخلاقهم الفاضلة،

o هذا التشريع يؤمّن التوازن المطلوب بين حقوق النفس وحقوق المجتمع، ويلبي الغرائز بالطرق المشروعة، حيث تعتبر رصيدا يعزز مكانة الإنسان مع خالقه،

o يؤمن الدين بأثر المثيرات على سلوك الإنسان، لذا يأمره مثلا بغض البصر عن المحرمات حتى لا يدفعه ذلك إلى المزيد من الانحراف،

o بشّر الخالق النفس البشرية بأن أي خطأ أو انحراف يمكن التوبة منه والاستغفار عنه بل قد تمحى السيئات وتستبدل بحسنات، هذا هو خير علاج لتأنيب الضمير،

o الخالق «المثل الأعلى» هو مع النفس في حياتها وهو يمدها بالعون والتوفيق على طول الطريق لتنتصر على نوازع الشهوة والأنانية التي تبعد النفس عن الصراط المستقيم، فهو دافع قوي لشد العزم والإصرار والصبر على مصاعب الحياة، بل إن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب،

o الموت لا يسبب قلقا وجوديا بل هو انتقال للقاء الحبيب وهو الرب الرحيم والمثل الأعلى، لذا قال الإمام علي بن أبي طالب عند لقاء ربه «فزت وربّ الكعبة»،

o الفرد ليس أسير مجتمعه، بل هو حر مختار وعليه أن يبدأ بتغيير نفسه أولَا ثم ينطلق في العمل مع الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ .

الإطار العام للسلوك:

• السلوك هو تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان ومع بيئته ومع خالقه. وهذا السلوك هو إرث إنساني منذ مطلع الخليقة ولكن الدين جاء متمما لمكارم الأخلاق وعزّز الأخلاق الحسنة إذ وعد بالثواب عليها وهدّد بالعقاب الشديد لتصحيح السلوك المنحرف. فجاء تشريع فقه العبادات لتعميق علاقة الفرد بخالقه مما يعود عليه بالخير والطمأنينة، وجاء فقه المعاملات لتشريع التعامل بين البشر وللحفاظ على حقوقهم. وشرّع السلوك مع البيئة فأمر بزرع الفسيلة حتى في آخر لحظة، وعدم الإسراف في الماء حتى لو كان على ضفة نهر، وشجّع على إعمار الأرض فمن أحيا أرضا فهي له.

لقد سبق الدين إيمانويل كانت في التأكيد على أهمية النية الصادقة في تحديد الأخلاقية المطلوبة، فقرّر الدين أن الإخلاص في العمل العبادي شرط في قبول العمل، وأن الرياء وهو أداء العمل فقط لإعجاب الآخرين محبط للعمل. هذا يندرج على سلوك الفرد بصورة عامة، فالنية الصادقة مقياس لجمال السلوك وليس فقط الفعل السلوكي نفسه.

الإنجاز:

• كيف نرفع الإنتاجية أي الإنجاز في جميع شؤون الحياة العملية؟

عرّف سليجمان الإنجاز بحاصل ضرب الكفاءة في المثابرة:

الإنجاز = الكفاءة * المثابرة

لعل معادلة سليجمان تعكس خلفية سليجمان الغربية التي تركز على الفردانية المادية. بينما نهتم هنا بالآثار الفكرية والروحية والجماعية. لذا نحتاج أن نضيف عاملين آخرين، لا يقلان أهمية، وهما الاستقامة وروح الفريق.

لذا فمعادلة الإنجاز، كما نراها نحن، هي:

الإنجاز = الكفاءة * المثابرة * الاستقامة * لذة العمل مع الفريق

اختصارها «ك م ا ل»

الاستقامة هنا هي النية الصادقة والسلوك الذي تؤيده الأخلاق الإنسانية ولا يتعارض مع تشريع الخالق.

أوضحنا هنا أنّ نظريات علم النفس رغم أهميتها لم تعالج كل أعماق النفس الإنسانية بل بقيت متعارضة أحيانا. بينما يلعب الدين دورا بارزا للإجابة على كل الأسئلة المطروحة فهو يسبر أعماق النفس الإنسانية ويرسم طريقها نحو التكامل، ولا عجب في ذلك فهو استجابة لفطرة الإنسان التي خلقها الله عليها، وشرّع لها ما يناسبها ويفجر طاقاتها الكامنة ويحقق سعادتها، والحمد لله ربّ العالمين.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ابو حسام القطري
5 / 3 / 2022م - 2:01 م
علم النفس بحر تتلاطم فيه الامواج عميق جدا ومتشعب وكلما تبحرت فيه تعطشت لتزود بالمزيد واردت ان تبحر اكثر. سلمت وسلم قلمك دكتورنا العزيز ابو محمد وزادك الله علما. تحياتي
رئيس جمعية مهندسي البترول العالمية 2007
والرئيس التنفيذي لشركة دراغون اويل سابقا.