شُكرًا للدراما السورية
لا شيء يملك تلك المقدرة السحرية على حِفظِ رائحة وطنٍ من التبخُّر والضياع مثل أعماله الدراميَّة حين تمتاز بالصدق، والعفوية، وجودة الطرح، وإتقان القالب الذي يُقدم فيه للمُشاهد. هذا ما أثبتته الدراما السورية الصامدة في وجه سنين الأزمة الطاحنة وآثارها المُهلكة، إذ استطاعت بما تم تقديمه من أعمال حرِصَت على تميّزها - رغم قسوة الظروف - خلال تلك السنين أن تُحافظ على مذاق اللهجة الشامية، وعبق الحياة في الشوارع والأزقة والبيوت السورية، بعضها كان خير مؤرّخٍ لما مرّ به الإنسان السوري في الحاضر، وبعضها سعى لأن يكون في مضمونه شيئًا من الأمل والسلوى لقلبه سواء استطاع البقاء في الداخل أو ألقت به أمواج الأقدار إلى أرضٍ ثانية، وقدّمت لمشاعر المفتونين بها زمنًا طويلاً من المُشاهدين العرب إشباعًا لولعهم العتيق بحكاياتها المحبوبة، وعزاءًا لأشواقهم المُتصاعدة تجاه تفاصيل سورية أخرى حرمتهم الأيام من الوصول |إليها أو سماع أخبارها.
لقد استطاعت تلك الدراما المُحافظة على تركيبتها الآسرة لأرواح المُشاهدين، بدءًا من القصة المُشوقة، والحوار المُتقن، والإخراج الذكي، والمونتاج الجذاب، والأداء التمثيلي المتفوق، وصولاً إلى الباقة الفنيَّة الكاملة التي يُقدم العمل الفني جاهزًا بها إلى الجمهور. أمام أعمالٍ متنوعةٍ كُنت اتساءل: ”كيف استطاع أولئك الفنّانون الوصول إلى هذه المرحلة من صدق الشعور في تأدية الدور رغم صعوبة الظروف التي يعيشونها خلال هذه المرحلة المُعقدة؟“، وأظن أن عشقهم الصادق لفنّهم هو الذي حملهم على تحمُّل المصاعب والانغماس في أدوارهم لعلهم يجدون في ذلك أكبر قدرٍ ممكنٍ من العزاء والأمل، بل وصل بعضهم إلى مرحلة من التقدم والتطوّر الإبداعي والقُدرة على إقناع المُشاهد فاقت ما كان عليه في أعوام سابقة، وهو أمرٌ يستحق الإعجاب والإكبار حقًا مُقارنة بفنانين آخرين من أماكن أخرى مرّوا بظروف مُشابهة أو أقل وطأة منها فاستسلموا لليأس وتدهور المهارة والموهبة.
من المثير للاهتمام أيضًا أن المنظومة الفنية السورية استطاعت تحقيق الفوز على كثير من معوقات الانتشار والوصول إلى المُشاهدين حول العالم بأكثر من طريقة ذكية، فاستغلت الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة للانطلاق بغزار والوصول إلى مكان المُشاهد بدلاً من توقع بحثه عنها ومحاولة وصوله لها، وقننت من مظاهر الاحتكار لوعيها بمدى ضررها على انتشار العمل الدرامي في الوقت الراهن، وسَعت لإطلاق تجارب جديدة جادّة في السوق الدرامي كان منها مسلسل ”داوت“ الذي أُنتج منذ البداية ليتم اقتصار عرضه على ”يوتيوب“ خلال الموسم الرمضاني الأخير مع الحرص على عدم تجاوز الحلقة الواحدة منه عشر دقائق، وهي تجربة فريدة تنم عن ذكاء فائق ورؤية فنية ثاقبة أخذت بعين الاعتبار إيقاع عصر السُرعة، ومزاج الأجيال الشابة، ومحدودية وقت المُشاهد المُتدين في شهر رمضان، وصعود نجم مقاطع الفيديو القصيرة المُتبادلة عبر الهواتف الذكية ومواقع التواصل الإلكتروني، فضلاً عن الظروف الإنتاجية التي تتطلب ضغطًا للنفقات مع عدم التفريط بمستوى المادة المُقدمة للمُتلقي.
مع أزمة من النوع الذي مرّت به سورية؛ كان من المُمكن أن تغيب قيم كثيرة، تتفتت مشاعر كثيرة، تنهار معانٍ كثيرة، تذوب تفاصيل ثقافية وحضارية كثيرة كانت ومازالت تتميز بها تلك الأرض، لكن الاستراتيجية الفنية العبقرية التي تم اتّباعها استطاعت حماية كل ذلك من الموت والضياع والتبدُد، ليس فقط لأجل السوريين الذين بينهم أطفال كبروا وآخرون وُلدوا في قلب تلك المعمعة؛ بل لأجلنا نحن، المُشاهدين العرب الذين وُلِدنا وكبرنا على استنشاق الإبداع السوري، وصرنا شاكرين ومُمتنين لوجوده وصموده.