آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

العرب ومنطق التحولات الجديدة

محمد المحفوظ *

ثمة آفاق وتحديات عديدة تطلقها وتفرضها مسيرة التحولات والتطورات التي تجري في العالم اليوم وعلى مختلف المستويات.

ولا يمكننا كمجتمعات من اغتنام الفرص والقبض على هذه الآفاق ومواجهة التحديات مواجهة حضارية وإيجابية، إلا بتطوير أوضاعنا وإصلاح مكامن الخلل في مسيرتنا العامة، وتجاوز كل ما يحول دون الانخراط الفعال في مسيرة التحولات والتطورات العالمية.

لهذا فإننا مطالبون بتطوير ذواتنا ومؤسساتنا وإمكاناتنا، وإصلاح أوضاعنا السياسية عبر الدخول في مسار الديمقراطية، والالتزام بمقتضياتها على مختلف الصعد.

وإن هذا الخيار، هو الذي يؤهلنا للقبض على آفاق هذا التحولات والتطورات، وهو الذي يوفر لنا أسباب المواجهة الإيجابية للتحديات والمخاطر.

التحولات والحرية:

وتفرض التحولات الكبرى التي تجري في المسارات الإنسانية كافة، تثبيت قيم الحوار والتلاقي والتفاهم والتعاون والتضامن في داخل المجالين العربي والإسلامي. إذ لا يمكننا أن نستوعب التحولات أو نستفيد من التطورات وأوضاعنا الداخلية مشرذمة ومفتتة ومنقسمة على ذاتها.

إن منطق التحولات الكبرى التي تجري في العالم اليوم، تفرض علينا ومن مواقعنا المتعددة، العمل على توطيد أسس وقيم الحوار الداخلي في الدائرتين العربية والإسلامية. كما تفرض علينا تحذير أسس التفاهم والتلاقي بين كل مكونات الأمة الفكرية والسياسية. ولا يمكن أن يتطور مشروع الحوار مع الآخر الحضاري، إذا لم يتعمق ويتجذر خيار الحوار الداخلي. فالحوار قيمة إنسانية وحضارية كبرى تتجلى في الدوائر والمجالات كافة. والممارسة الانتقائية لهذه القيمة، لا يفضي إلى ممارسة سليمة، ولا يجعلنا كمجتمعات نرسي دعائم الاستقرار السياسي الداخلي في البلدان العربية والإسلامية. و”إن الإيمان بالذات هو الذي يصنع الإيمان بالآخر. وإن الأزمة في التعبير عن الذات المسلمة اليوم، هوية وإبداعا، تقود إلى الأزمة في إدراك قيمة التعددية فضلا عن وضع تصور لها. فكثيرا ما يقنع الخطاب الإسلامي بمعالجة تجليات الأزمة دون التوغل في تعقيداتها المعرفية والمنهجية. إن النظر إلى عوائق فهم الذات ينقل وعينا بالتجليات إلى أسسها. فعدو الحرية الخارجي من ظلم واستبداد وجهل، إنما يكمن في وجهه الخفي والأخطر داخل أنساق تربيتنا الحسية والذهنية. وخلف أزمة الحريات والتعددية السياسية يقبع في نفوسنا شبح الإقصاء والتكفير الذي يهدد كياننا بالوهن وإضعاف القدرة على التواصل الداخلي، الذي هو قوام أي تواصل مع الآخر من خارج حضارتنا“ [1] 

فإطلاق الحريات السياسية والثقافية، هو الذي يوفر الأرضية والظروف الموضوعية المؤدية إلى استيعاب تحولات العالم، وتوظيف تطوراته. بما يخدم قضايانا الإنسانية والحضارية. فالإلمام بمفردات التحولات وحركة العصر. بحاجة دائما إلى الاستناد إلى قوانين التاريخ وقواعد التطور الإنساني. وبدون ذلك يبقى النظر إلى التحولات وكأنه لهاث لا يوصلنا إلى هدف، ولا يقينا من مطبات ومنزلقات، ولا يخرجنا من هامشيتنا في حركة التاريخ المعاصر.

والحرية بكل آفاقها ومتطلباتها، هي التي تعيد لنا جميعا فاعليتنا الحضارية وفعلنا النوعي في مسيرة الإنسانية والتاريخ. وحماية الذات وتحصينها، هي بحاجة دائما إلى بناء القوة الحضارية، التي توفر كل أسباب الحيوية والفعالية في الاجتماع الإسلامي.

وكل الخيارات المتاحة في مجالنا وفضائنا أمام تحديات العولمة تنعدم وتتلاشى، حينما نفقد القدرة على ممارسة حريتنا، وتجميع إرادتنا الجمعية، وتكاتف طاقاتنا مع بعضها البعض.

فتوظيف التحولات الكبرى، بما يخدم قضايانا الحضارية والإنسانية، يتطلب وجود الإنسان والمجتمع الحر، الذي يتمكن من إدارة تنوعه بعقلية حضارية، وتكثيف جهوده وإمكاناته في أطر ومؤسسات، تتجاوز الأنا الضيقة، وتنقح على رحاب الجماعة والفعل المؤسسي بكل آفاقه ومتطلباته.

متطلبات عصر العولمة:

شهدت البشرية خلال العقدين الماضيين، الكثير من التطورات والتحولات التي طالت كل شيء تقريبا. بحيث دخلت الإنسانية في مرحلة تاريخية جديدة على مختلف الصعد والمستويات. صحيح أن بعض المجالات والمناطق لم تطالها حركة التحولات بشكل سريع ومباشر، إلا أن وتيرة التحولات وتصاعدها الهندسي، سيفضي في المحصلة النهائية إلى أن تطال هذه المسيرة جميع المجالات والجوانب.

فالموجات المتلاحقة من التطورات، تتطلب حيوية فكرية وسياسية عربية وإسلامية، حتى يتسنى لنا جميعا الاستفادة من هذه التطورات، وتأسيس قواعد وأطر مجتمعية، تعتني بحركة التحولات وترصد مسيرتها، وتوضح سبل وأوليات الانطلاق على ضوئها.

وحركة التقدم والتطور والتجديد في المجال الإسلامي مرهونة، إلى حد كبير قدرة هذا المجال على توفير حقيقة الاستقرار والمجتمعي وقوامه حرية الإنسان وتماسك الجماعة والاجتهاد وتطوير مؤسسات البحث والتفكير وصياغة ثقافة سياسية جديدة لا تنحبس في قوالب ماضوية ولا تلقي خصوصية أوضاعنا، ولا تقفز في المجهول وإنما تبني حياة سياسية جديدة ترتكز على إطلاق الحريات السياسية لكل القوى والمكونات لكل القوى والمكونات، وإدارة الاختلاف والتنوع بعقلية الحوار والاستيعاب، لا بعقلية الصمت والإلغاء.

ودون ذلك سيبقى تأثير التحولات الحضارية والإنسانية التي تجتاح المعمورة وكأنها فقاعات ورغاوي لا تزيدنا إلا وهمنا وابتعادا عن المسيرة السليمة في بناء واقعنا على أسس الحرية والمعرفة.

فمواجهة تحديات العولمة، تقتضي منا جميعا، وكل من خندقه وموقعه، إلى المشاركة الجادة في عملية البناء الداخلي وتطوير الديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان في الفضاء العام.

وإن العجز تجاه تمثل هذه القيم والمبادئ، مهما كانت أسبابه، سيلقي بظلاله الكئيبة على العالمين العربي والإسلامي. حيث تستفحل الأزمات والمشكلات، وتتعاظم الاختناقات، ويضيق هامش الخيارات والمسارات، وتتفاقم كل أسباب الخروج من العصر.

فعصر العولمة يتطلب منا، إرادة إنسانية مستديمة، تتجه صوب طرد كل معوقات الانكفاء والانعزال والهامشية، وتبني كل حقائق الحضور والشهود. وروحية جديدة تمتص كل المكاسب، وتستوعب كل المنجزات، وتزيل من طريقها ومسارها كل الكوابح التي تحول دون توظيف مكتسبات العصر. وثقافة تعلي من شأن الإنسان وحقوقه، وتصون كرامة ومكتسباته، وتجذر وتعمق خيارات الحوار والتعددية والتسامح بدل العنف والإقصاء والأحادية. ونظاما سياسيا، يستند في إِدارته وحكمه على مبدأِ المشاركة وتداول السلطة وإرساء دعائم الديمقراطية في الحياة العامة. وإن الظفر بمكاسب التكنولوجيا وثورة المعلومات والاتصالات، يتطلب منا كشف قوانين هذه المكاسب وسننها. لأن هذا الكشف، هو الذي يوفر لنا القدرة على توظيفها بما يتلاءم وقضايانا وحاجاتنا الملحة. وإن هذه التحولات والتطورات التي تطال كل شيء، ينبغي أن تحيلنا إلى وعينا النقدي، وتطور استعداداتنا الإنسانية في المساءلة والمراقبة وإعمال العقل. وذلك لأن غياب الوعي النقدي مع زخم التحولات وتطوراتها المتسارعة، لا يجعلنا نوفر الأسباب والعوامل الذاتية التي تؤهلنا للانخراط النوعي في مسيرة العالم والعصر. فوعينا النقدي وتنمية استعداداتنا في المساءلة وإعمال العقل، هو القادر على توفير إمكانية إنسانية جديدة للتعامل الخلاق والمبدع مع منجزات العصر ومكاسب الإنسان.

والمجتمع الذي تضمحل فيه إمكانية ممارسة النقد والمساءلة، لا يستطيع استيعاب التحولات والإفادة القصوى من منجزات العصر والتقنية الحديثة. والوعي النقدي لا يتبلور وينمو في الفضاء الاجتماعي، إلا في إطار من الحريات السياسية والثقافية، التي تفضي إلى خلق وقائع اجتماعية تسمح بممارسة النقد وتحترم متطلباته وتؤسس لمبادرات مجتمعة على قاعدة المشاركة وتحمل المسؤولية.

وإن تجذر متطلبات الوعي النقدي في فضائنا الاجتماعي، هو الذي يحررنا من يباسنا وجمودنا، وهو الذي يوفر لنا الإجابات المطلوبة على متغيرات واقعنا وراهننا، وهو الذي لا يجعل الهوية معقولة جامدة لا تحرك ساكنا، وإنما يحولها إلى وظيفة لطرد عناصر التأخر والتخلف وإمكانية إنسانية مفتوحة على الفعل والإبداع والوجود.

فالمطلوب دائما، هو قراءة واعية للتحولات، ويقظة دائمة تجاه الراهن، وإصرار مستديم للقبض على آفاق هذه التحولات ومواجهة التحديات بعزة واقتدار.

 

[1]  مجلة رؤى - العدد الرابع عشر - ص3 - السنة الثالثة - شتاء 2002
كاتب وباحث سعودي «سيهات».