آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

وداعا أسطورة كرة القدم «30»

عبد العظيم شلي

تهب مدينة نابولي شعبيا لاستقبال الفتى الذهبي، وتظهر زينتها كفتاة حسناء، حدث يأخذ مداه بحجم إقليم كامبانيا، ميادين زاهية بعبق التاريخ تنفض الغبار عنها، فيكتسي كل ما حولها بشعارات النادي بلونيه الأبيض والسماوي، أوشحة مزركشة وأبواق تضج الأمكنة، صافرات تتلاطم بأمواج بحر خليج نابولي، صدى يأخذ مداه إلى أعالي جبل فيزوف، رايات وأعلام تهزها الأيدي عاليا كأنها أسراب حمام، أحاديث مسترسلة وقبلة العشاق موحدة بمتعة كلام، تتلون الحكاية بأنغام المزامير وقرع طبول الحماس، المقاهي والحانات تخلو من مرتاديها، الأحياء مقفرة والأزقة القديمة خاوية، زحف جماهيري يسارع الخطى إلى ملعب ”سان باولو“، اصطف المشجعون لساعات ودفعوا 1000 ليرة مقابل امتياز رؤية الأرجنتيني، احتشاد ضخم لموعد اللقاء، كرنفال احتفالي وطقس المدرجات فرجة رومانية تلد من جديد، العيون لهفة والقلوب عطشى، في انتظار ظهور الفتى.

دوى صوت طائرة هليكوبتر تحوم في السماء، اقتربت شيئا فشيئا من الأرض، حطت في الفناء الخارجي للملعب، فتح الباب استقل منها الفتى يرتدي فانيلة بيضاء وسروالا سماويا وعلي رقبته وشاح نابولي، جرى بخفة غزال، أزيح الستار لبدء الاحتفال، هرول وسط الميدان رافعا يده تحية للعشاق، حييته الجماهير بعاصفة تصفيق، نبضات القلوب ملؤها الغبطة والمسرات، آلات التصوير ترصد الجسم الرشيق، بعد لحظات أمسك بالكرة في استعراض مهاري راقص مثل حاوي مفتون بسحر ألعابه، يقف على يمناه، ويسراه تتمرجح مداعبة بالكرة علوا ونزولا، طقطقات بالرأس مدحرجات للخلف والأمام، تنزلق المستديرة نزولا حول عنقه والظهر، ركلة بالكعب، رمية قوس للأمام يتلقاها بالرأس ويوقفها هنيهة، وينزلها على فخده، تكتيكات متواصلة وترقيص بسطح القدم، تبادله الجماهير تصفيقا بالكفوف والدفوف، ثم قذف بالكرة عاليا نحو السماء، أكف تناجي الرب ليفتح عليهم بركاته، ويمن عليهم بجوده وكرمه، عبر تسخير هذا الفتى ليفتح لهم أبواب الحظ المتعثرة منذ تأسيس ناديهم 1923 م، كمْ يمنون النفس عبر أقدامه الذهبية بتحقيق أحلامهم الموءودة.

جماهير محتشدة بلغ تعدادها ب 75000 وهو سعة مدرجات الملعب، يظن الناظر للجموع بأن مباراة نهائية تجري وطيسها على أرضية الملعب وليس مجرد استقبال لاعب، واي لاعب تنظر إليه جماهير الشغف والجنون، هم متيمون بامتلاك أسطورة كرة القدم، كان يرونه خيالا والآن أصبح واقعا أمام العيون، كثير من الحاضرين عطشى لم يرتووا بعد باستعراضه المفتون وآخرون لم يتمكنوا من رؤياه جيدا بسبب زحام المصورين وتكدس الصحفيين، نادته الحشود لكي يعيد مشهد الرقص الكروي، رجع ثانية، عاد إلى أرض الملعب عبر نفق تحت المدرجات، أعاد سيناريو وصلته الاستعراضية، يدندن بالكرة ترقيصا على إيقاع تصفيق الأكف الموحدة، ”م را دو نا“.

بالأمس كان السباق محموما بين إدارة نادي نابولي وأطراف أخرى لخطف الفتى، مفاوضات عسيرة أشبه بالمنازلة، وذروة المزايدة بلغت أوجها لكي لا يخطفه جوفنتس المترف بالمال والإعلام والنجوم، مقابل عشرة ملايين دولار، لكن قلب الفتى مال حبا لشعب مفتون به، انضم لناد منسي رياضيا واجتماعيا، ومقدرا جهود إدارة بذلت كل طاقاتها المادية والنفسية والمعنوية لإحضاره إلى فرقة النادي شبه المتواضعة وذلك من أجل إشاعة الابتسام ورسم الأفراح لكل أبناء نابولي.

ثمة آمال معلقة، والظنون تتلون بسباق الزمن هل يأتي الصبح بما تشتهي الأنفس العطشى؟

جنوبيون ينظرون برسم المستقبل، يبادلهم الفتى نظرات تفاؤلية، يحدق إليهم من تحت غمامة خصلات شعره المجعد الذي يغطي جبهته، غمزة عين ولفتات بهجة، يلوح لهم بقبضة يديه يضعها تارة على صدره ويرسلها للجموع الغفيرة، أنتم هنا في القلب، تحية إجلال كررها مرارا وهو يدور حول مضمار الملعب أخذ لفة كاملة، والقبلات كأنها أطباق طائرة، وليمة حب ووله على أنغام الجنون، تتراقص الجماهير بشكل هستيري، حناجر تهتف بأهازيج متواصلة، وتتغنى بمارادونا عصر يوم 5 يوليو من عام 1984 ولسان حالهم يقول:

”أتيت إلينا يا مارادونا يا أسطورة كرة القدم أتيت والنصر معقود بين رجليك“ تصفيقات جماهيرية مدوية بأهازيج الترحاب، أغان جماعية تصدح كل أرجاء الملعب والمدرجات تهتز هزا، هتاف جامح وصوت جامع، قلوب تهتفي: أصبح الآن لدينا أفضل لاعب لامس الكرة على مر التاريخ.

فواصل عزف ونبضات قلوب هائجة، رفع الفتى يديه عاليا والأخرى تمسك بالمايكروفون هدأ الضجيج قليلا، جاءت لحظة الإنصات، مارادونا يخطب بالجماهير الغفيرة «أيتها السيدات والسادة، أريد أن أصبح معبودا لأبناء نابولي المساكين، لأنهم مثلي عندما كنت فقيرا في بوينس آيرس، سوف تكون نابولي بيتي».

حشد من الصحفيين رصدوا المشهد وتم تناقله عبر سائل الإعلام المختلفة.

اعتبروا تلك الحفاوة الباذخة إعلان نصر لمدينة نابولي، هل جاء الفارس الذي سيرفع اسمها عاليا وينتشل ناديها المترنح هبوطا، أي أحلام تداعب العقول المحتشدة وخلف أسوار الملعب، واي أمال معقودة على الفتى.

هل جاء في الزمن الصح والوقت المناسب؟ من يراهن عليه وهو الخارج من أرض الأسبان مغبونا، مذموما من إدارة سابقة لم تحسن التصرف معه ومن جماهير باسكية متعجرفة حطت من شخصيته بهتافات تحقيرية وعنصرية وكاد أحد لاعبيها أن يذبحه كرويا.

هنا في نابولي جماهير تتفجر فرحا، وهناك حزن خيم على كل لاعبي برشلونة حين فارقهم من غير رجعة، قال زميله السابق لوبو كاراسكو ”أتذكر دوراتنا التدريبية المبكرة معه، كان باقي أعضاء الفريق مندهشين لدرجة أنهم وقفوا وشاهدوه، اعتقدنا جميعا أننا محظوظون لأن نكون شهودا على عبقريته“.

تلك مرحلة كانت فيها عبقريته تائهة وسط مجتمع يصفق للماتادور والثيران الهائجة، ولم يفرق بين فرجة حلبة أو رؤية ملعب.

وها هو اللاعب هوغو شقيق مارادونا الأصغر وهو من مواليد 1969 المعروف ب أل ”تركو“ وهو لاعب خط وسط، يقول عن أخيه: ”دييجو كانت لديه مشاكل حين كان في برشلونة، لقد أصيب بالتهاب الكبد، ومشاكل في الكاحل، لذا يعد انتقاله إلى نابولي، خيار حياة“.

استقبال أسطوري للنابوليين، عنوانه قلبا وقالبا حب من النظرة الأولى للاعب والمشجعين.

كتب المؤرخ ديفيد جولدبات ”لقد كان هذا كافيا، مشجعو نابولي باتوا مقتنعين بأن المنقذ قد وصل ”كتبت إحدى الصحف المحلية“ إن المدينة تفتقر إلى رئيس بلدية، ومنازل، ومدارس وحافلات، وفرص عمل، وصرف صحي، لا شيء من هذا مهم لأن لدينا مارادونا“.

نابولي في انتظار الآمال الموعودة، أي حفل استقبال ذاع صيته لكل أرجاء إيطاليا وخارجها، يستحضر الكاتب ”إد فوليامي“ ذلك الاستقبال المهيب بقوله: ”هذه هي المدينة التي وصل إليها ديجو مارادونا عام 1984 وامتلأ الأستاذ كاملا، زحام في الشوارع المحيطة به، حشد كبير من الناس لتحية رجل الذي بشرت به نابولي على أنه مسيحها المنتظر“.