آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

قراءة في ديوان نبض للشاعر زكي السالم

سلمان عبدالله الحبيب

إنّ الشاعر زكي السالم يتنقّل في شعره هنا وهاك كالسندباد، ممتطياً جواد الشعر باحثاً عن الحقيقة في شكٍّ وجوديٍّ يتجلّى في قصائدهالمرصّعة بذهب البيان في ديوانه «نبض».

وهو يستمرّ في البحث ليرى وجوده في تلك الأسئلة وكأنه يقول: ”أنا أفكّر فانا موجود“ لذلك يعبّر عن ذلك بقوله:

لم يعدْ هذا السرابُ محفّزاً
لظما الحقيقةِ
حين أربكهُ السؤالْ
ما عادَ في هوجاءِ رملكَ
ميْتُ أحجيةٍ تكفّنهُ
يمينُ الغيبِ مصلوباً على جذْعِ المآلْ

وهو يبحث عن الحقيقة التي يعبّر عنها بأنثاه في مخاتلة نصّية جماليّة ليبعد شبهة الشك عن نفسه فيقول للمرأة/ الحقيقة:

عشقتكِ منذ فجر العشق لم أكفرْ بملّتهِ

وصغتكِ فيه محراباً أولّي. شطر قبلتهِ

وحين قلاكِ ربّ الحبّ أغراني بردّتهِ

فالحبيبة هنا ليست سوى «الحقيقة» التي يحاول الشاعر الإيمان بها وتقديسها ويخشى أن يرتدّ عنها ويكفر، وها هو يخاطب حبيبته/ الحقيقة مبيناًأنه حان وقت اقتطافها فيقول:

فقم يا سيدي قد آن وقت القطفْ
فها قد جئتُ أحملُ رغبةً بين الجوانحِ
لا تسل عن سرّها
لن أستطيع الكشفْ

ويقول في موضع آخر ليظهر حيرته في البحث عن الحقيقة:

وأظلّ كالمذهولِ أبحثُ جاهداً
عن كلمةٍ عن فكرةٍ عن خاطرِ

ويقول معبراً عن تلك الرحلة المضنية التي لا تنتهي:

ولكنّنا في رحلةِ الشوقِ خاننا
المسيرُ المدمَّى فامتطيناه قهقرى

وبهذا فقد عبّر الشاعر بحيل البلاغة عن الحقيقة بالأنثى الحبيبة، التي يلاحقها للكشف عنها، والوصول إلى كامل مبتغاه منها، ولكنه لا يظفرمنها تماماً، ولا يشبع نهمه منها، لهذا فهو يؤكّد على هذه الحالة الشكيّة في لباس غزليّ بقوله على لسان الحبيبة:

يا منْ بذرتَ الشكّ في جسدي
إني. قُتلتُ بذلك البذْرِ

ويقول أيضاً على لسانها مؤكداً على حالة الشك:

ارحم جريحتكَ التي عصفتْ
فيها الشكوكُ كهائج البحرِ

وفي ذينكَ المقطعين تترجّل الحبيبة من جواد المجاز لتكون هي الحبيبة التي تنطق بالشك الموجود لدى الشاعر.

وها هو يعود للأنثى المجاز ليكاشفها بحالة الشك قائلاً:

وقلباً تدفنين به ظنونهْ
وظناً تدفعين به يقينهْ

ويقول لها أيضاً:

كأنّ بوجهكِ المملوءِ وجداً

صدى شكٍ يرنّ أسى بأُذْني
أنا عتبٌ بصدركِ لا يُدارى
وشكٌّ أرعنُ النيّاتِ مضنِ

ويقولُ معبراً عن حالة الشك التي تعصف به فلا تنفعها غابات الإيمان التي تمتدُّ في أعماقه:

أحسّ بقلبي الموجوعِ يشكو من فرار النزفْ
وأحلامي التي اختصرت مسيرة خطوتي الأولى
لتركضَ في طريق الألفْ
وأوهامي التي بُنيتْ على كُتلٍ من الإعياءِ
لم تصمدْ أمام الزحفْ
وغاباتٍ من الإيمانِ تُنثرُ في صحارى الشكِ
أعيتْها رياحُ الشكْ.

ولكنَّ الشاعر يعيش حالةً من الأسى والضيق نتيجة هذا البحث المضني فيقول للمرأة/ الحقيقة:

كئيباً مثل هذي الأرضِ جئتكِ أشتكي نفسي
وثقلُ خطاي يسبقني إلى مبكًى من اليأسِ
كأني فوق ظهر اليوم أحملُ مثقلاً أمسي

فهو يشعر بشيء من اليأس في كشف الحقيقة، لذا فهو يقول كذلك مخاطباً الحقيقة/ الأنثى:

سقيمٌ قلبُ من يهواكِ، كل طموحه يأسُ
وكل دروبهِ ألمٌ وكل حظوظه نحْسُ

ولا يمكن لهذا الشاعر - المملوء بالشك والذي يبحث كالسندباد عن الحقيقة دون فتور - أن يكون مطمئناً مرتاح البال، بل سيكون غريباً وسيعيش قلقاً وجوديّاً يزيد من ألمه ووحشته، لذلك يقول:

وحدي هنا نغمٌ حيرانُ منحطمْ
لم أدرِ كيف إليه تاهتِ الطرقُ!!

ويقول مخاطباً ساحل الحقيقة في مجاز مخاتل:

أيها الساحلُ الذي لا يُحدُّ
كيف أغفى على ذراعيكَ مدُّ؟!

والحقيقة عند شاعرنا هي الحلم القديم الذي يبحث عنه، فيقول:

دعيني ألملمُ حلماً قديماً
تبعثرَ في خافقي واحترقْ

وهي الشوق الملحّ:

فخذي بحجم العشقِ قلباً ذابَ من شوقٍ ملحِّ

وهي الفكرة المؤرقة التي تسلبه راحة النوم:

طرقتْ عليّ الباب في قلقٍ
وتلفّتتْ من شدّةِ الذعرِ

ما كنتُ أبصرُ غير هالتها
وشذا العبير بجسمها يسري

ومع هذه الغربة الفكرية وذلك اليأس يبرق في ذهن شاعرنا بصيص من الأمل:

فلا تعبأْ لما خُبّي بظهر الغيبِ من قَدَرٍ
فأنتَ على المدى المنظورِ منتصرُ
وأنتَ الليلَ تهزمهُ، ويسقطُ تحتك القمرُ

وأخيراً تكشف الحقيقة عن نفسها، أو كما يشاء الشاعر في مجازه تكشف الأنثى عن وجهها النقاب فتقول للشاعر:

وكشفتُ عن وجهي النقابَ فهل ترى
أعجوبةَ الدنيا تحطّ بناظري؟!

ولكنّ الشاعر يضيق به البيان حينما يعرف الحقيقة ويكشف عنها، وكما يُقال: ”كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة“ لذا فهو يقول:

تهدّجت لغةُ الإبحار في شفتي
فما نطقتُ ولم تُفهَمْ إشاراتي

وبعد أن يكشف الحقيقة يشعر شاعرنا بأنه موجود وبأنه يثبتُ وجوده من خلال أفكاره في مواجهة الحقيقة لهذا فإنه يقول للأنثى/ الحقيقة بأنه هو من يختار أفكاره ويشكلها وليست الحقيقة هي التي تشكّله وهو بهذا ينتصر للرأي القائل بأن الحقيقة ذاتيّة وليست موضوعيّة فيقول:

ماذا تظنين قلبي في عواطفه
صلصالةً مثلما تبغين يختارُ؟!

وهكذا استطاع شاعرنا «السالم» أنْ يعبّر عن شكه ويقينه وأن يجسّد معاناته مع الحقيقة وأن يتخذ من الأنثى وسيلة مجازية للتعبير عن ذلك الصراع الوجوديّ.