بين عكاز نزار قباني ونظارة طه حسين!
في بداية شهر مارس سنة 1994 كنت ضيفًا على جائزة سلطان العويس بفندق هيلتون الشارقة، إذ منحت للشاعر نزار قباني، حين أطل علينا وابنته زينب، وأنا أتناول مع بعض الأصدقاء طعام الإفطار في مطعم الفندق.. ترددت في القيام بالسلام عليه، إلا أنه بعد دقائق فاجأني بالقدوم نحو طاولتي، فقمت مهرولًا إليه مسلمًا ومعانقًا، وبعدما عرفني بابنته زينب من زوجته العراقية بلقيس، التي خطبها له الرئيس العراقي أحمد حسن البكر سنة 1969.. قال معاتبًا:
هاه.. رضا.. يبدو أنك أصبحت نجمًا ببرنامجك في قناة MBC كنت أتوقع أن تترك مقعدك وتأتي إلي محييًا.. لا أنا.
أجبت من فوري:
إن صح إطلاق لقب نجم بين الأدباء والشعراء العرب، فإنه لا يليق إلا بك، فأنت النجم الساطع الذي تحول إلى ظاهرة جماهيرية.. الرجال والنساء، الشيوخ منهم والشباب، المتعلمون والأميون.. كل هؤلاء يعرفونك، تكاد اليوم تنفرد بهذا المجد وحدك، حيث قرأ شعرك الملايين على امتداد عربي واسع، وتباين جيلي لافت، ومن لم يقرأ شعرك سمعه يُغنى في حناجر أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفيروز وماجدة الرومي وكاظم الساهر.
أعجب هذا الإطراء الشاعر المسكون بالنرجسية، حسب أطروحة الأكاديمي اللبناني د. خريستو نجم «علم النفس الأدبية»، وأردف قائلًا:
سأتناول إفطاري مع زينب.. ألا تعرفها؟ إنها وحيدتي وعمر من بلقيس.. ما رأيك أن نلتقي هذا المساء هنا في الفندق.. هل أنت مرتبط بموعد؟
أجبته: حتى لو كنت كذلك سأفك الارتباط. هل أنا مغفل لكي أفوت دعوة مفتوحة من أبرز شاعر عربي؟ ّ!
في المساء طرق باب غرفتي، حيث سامرني حتى منتصف الليل، وكان الشعر ثالثنا، متمحورًا الحديث حول نزار، لا يكاد يخرج عن كونه الشعري!
تعود معرفتي الشخصية بنزار قباني إلى أواخر شهر فبراير سنة 1975 إذ كنت من المترددين الأوائل على مكتبة الحاج محمد مدبولي بالقاهرة، عند تحولها من كشك صغير لبيع الصحف والمجلات وبعض الكتب، إلى مكتبة بارزة أصبحت تتوسط ميدان طلعت حرب، على يسار مقهى جروبي الشهير.
ذات مساء وأنا بين رفوفها أقلب جديد الإصدارات المصرية واللبنانية، دخل علينا رجل منهك القسمات بادي الضعف في بنيته الجسمية، فما كان من الحاج مدبولي إلا أن يترك زبائنه، محتفيًا به بالغ الحفاوة.. وبعدها قدمني إليه: أديب شاب من السعودية.
سلمت عليه معرفًا باسمي، وكانت دهشتي كبيرة حين ضغط على يدي محييًا، شاكرًا مقالتي التي نشرتها في جريدة الرياض عن أحد دواوينه الصادرة وقتذاك.
انعقدت الدهشة في لساني.
إذن.. إنه نزار قباني.. يا لها من مفاجأة. وإذ لمس في وجهي إشراقة انبهار قال لي:
إن مقالتك أرسلها لي عبدالله العوهلي صاحب دار العلوم، الذي كان مفتونًا بشعر نزار افتتانًا، دفعه للعمل على فسح دواوينه وعرضها في مكتبته، مضيفًا بكلمات أمل أن تفك مثل مقالتي الحصار حول دواوينه الممنوع دخولها إلى المملكة، منذ أن نشر قصيدته الشهيرة «الحب والبترول» سنة 1958.
شكرته بحرارة على حسن استقباله ودماثة خلقه، داعيًا الله أن يرفله بأثواب الصحة والعافية.. وقتها كان نزار قد مر بأول أزمة قلبية أدخلته مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، ليجري عملية قلب مفتوح، إثر الصدمة النفسية التي تعرض لها سنة 1973 بوفاة ابنه البكر «الأمير الدمشقي توفيق» بأزمة قلبية مفاجئة، وهو يدرس الطب في جامعة القاهرة، وقد رثاه في مجلة الأسبوع العربي بقصيدة باكية.. منها:
أشيلك! يا ولدي! فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين
وشعرك حقل من القمح تحت المطر
ورأسك في راحتي وردة دمشقية وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي
وأجمع كل ثيابك وحدي،
وألثم قمصانك العاطرات
ورسمك فوق جواز السفر،
وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر!
شكرني بدوره.. وقبل مغادرته المكتبة، وجه لي الدعوة للاستماع إلى قصيدته في رثاء د. طه حسين الذي توفي في أحد أيام حرب أكتوبر 1973 مما اضطر الدولة المصرية إلى تأجيل رثائه في احتفال عالمي، أقامته ذكرى لوفاته في قاعة الاجتماعات الكبرى بجامعة الدول العربية بين 26 - 28 فبراير 1975 بحضور عدد كبير من المستشرقين والمفكرين والشعراء العرب.
هكذا بدأت علاقتي بنزار قباني.
هأنذا أدخل بكل مهابة القاعة التي كان لها وقع السحر في نفوسنا العربية، ونحن نشاهد في التلفزيون ونتابع في الصحف، الملوك والرؤساء العرب يجتمعون فيها في أحداث العرب الكبرى.
بدأ الاحتفال بكلمة للرئيس أنور السادات، ألقاها نيابة عنه د. عبدالعزيز كامل نائب رئيس الوزراء للشؤون الدينية، ثم تتالت الكلمات من يوسف السباعي وزير الثقافة محييًا الصفوة من أبناء العروبة والإسلام للاحتفاء بعميد الأدب العربي ودوره في النهضة الثقافية العربية، كما أكدت تلميذته الأثيرة د. سهير القلماوي على دعوة أستاذها «للتحرر من الجمود الفكري، واصطناع الأساليب العلمية الحديثة، كما تعلمها على فطاحل عصره دوركهايم وليفريوول في علوم الفلسفة والاجتماع ودروس كازنوفا عن القرآن الكريم في الكوليج دو فرانس، وقد قرأ لطائفة ضخمة من فلاسفة اليونان والعصور الحديثة مستوعبًا كل هذا على خلفية ضخمة من علوم الدين واللغة والأدب العربي».
ثم تعاقب على منصة الخطابة المستشرقون والمفكرون والشعراء، يمجدون حياة العميد وكفاحه وتآليفه وترجماته، بحضور زوجته سوزان الفرنسية وبينها ابنتها أمينة وابنها مؤنس. وقد افتتح الشعر في الحفل دولة رئيس وزراء الأردن الشاعر عبد المنعم الرفاعي بقصيدة جاء فيها:
يا قاهر الأيام مر مريرها
ومبدد الآلام بالآمال
هوت السنين العاتيات كأنها
وقد انتهين إليك بضع ليالي
وكأن أجنحة الزمان تكسرت
لما طلعت بيومك المتلالي
من ظلمة خرساء عابسة الرؤى
أشرقت نورًا في سماء جمال
حنت إليك النيرات ففتحت
في أصغريك جواهرًا ولئالئ
ها هو شاعر آخر يتقدم إلى المنصة، محمر الوجه ومتطاير الشعر.. وقف هنيهة يلتفت يمنة ويسرة، وكأنه فارس يستعد لخوض معركة! مستجمعًا أنظار الحضور إليه، ثم انطلق صوته هديرًا لا يناسب ما كانت عليه قصيدته من جمال، وقد ألقاها بتباه نرجسي صارخ، هازًا يده ورأسه ولسانه:!
ذكراك في البال ما ذكراك؟ قل طربًا
هام الخيال غضوب أشعل السحبا
ولو لا ريشة عصر أن تظلله
لكنت كالليل لف المنهى بإبا
كذاك أنت رمت عيناك ليلهما
ثقلًا على الشرق عاد الشرق ملتهبا
لا، لم تقلها استفيقوا إنما بدعت
يداك بدعا تصبى الجفن والهدبا
بات الذي يقرأ «الأيام» مختلبا
بالحسن والحسن ينبي يوم ليس نبا
مع جمالية قصيدة سعيد عقل، وفرادة صوره، وبراعة تراكيبه.. إلا أن توتره النفسي، وطريقة إلقائه المسرحية المتعالية، صرفت أنظار الحضور النخبوي دون الالتفات إليه، فلم تنل قصيدته ما كان يتوقعه من التصفيق.. لحظتها لم أتأمل رد فعل نزار قباني، المتهم من بعض النقاد باغترافه من هذا النبع اللبناني المتدفق بالأخيلة والصور، والتفنن في الاستعارات والمجازات في شعره.
لقد شغلني عنه تفحصي وجوه كبار المستشرقين، وفي طلعتهم المستشرق البريطاني الشهير ر. ب. سارجنت، وقد راح يسترجع ذكرياته مع طه حسين، عندما استقبله بحفاوة في جامعة كامبريدج سنة 1949 ليحاضر في طلبتها، وكذلك ألقى المستشرق الألماني بيتر باخمان كلمته عن دور العميد في تعريف الجامعات الألمانية بالأدب العربي، كما ألقى المستشرق الإيطالي ريتز ينالو اوبيرتو، والمستشرقون الفرنسيون الأب جومييه وروجز ارنلدز واينائيل، وكذلك ألقى مولود معمري الروائي الجزائري الأمازيغي كلمته بالفرنسية مثلهم! بينما ألقى الأديب التونسي البشير بن سلامة كلمة بلده بلغة عربية فصحى، وألقى كذلك المجمعي العراقي د. عبدالرزاق محي الدين قصيدة كانت ديباجتها نجفية. قبل أن يأتي دور كلمتي تلميذي طه حسين البارزين د. ناصر الدين الأسد في الأردن ود. شكري فيصل في سوريا. كما كان للشاعر اليمني د. عبدالعزيز المقالح مشاركة استثنائية، كاسرًا بها فوبياه من عالم الطيران!
كل هؤلاء من زملاء العميد وتلامذته، ودارسي نقده الأدبي وفكره التاريخي وتنويره الثقافي، توفقوا عند دوره الاجتماعي والسياسي حينما طبق دعوته إلى مجانية التعليم «كالماء والهواء» بعدما أصبح وزيرًا للمعارف، في آخر حكومة وفدية، قبل إطاحتها بثورة 23 يوليو 1953.
هذا ما محور عليها الشاعر أمل دنقل قصيدته، التي كتبها على النمط الخليلي، إلا إنها اتسمت بنبرة نثرية فاقعة، كاسرًا بها نهجه الشعري التفعيلي الغاضب، المتطاير شرره المبدع في دواوينه.. جاء فيها:
أترى تبكين من مات لكي
تستعيدي راية الفكر السليبة
والذي مات لكي ينقش في
كل قلب ناشئ حرف العروبة
ولكي يحتضن الطفل حقيبة
ولكي تقتات بالعلم الشبيبة
لم تنل قصيدة أمل أي حظ من التصفيق، وهو يقف أمام عمالقة القريض العمودي، ممن تعودوا على ارتقاء منبر الإلقاء الشعري الجزل، فقد بدا أمل ركيك التعبير باهت الحضور، وكأنه جر إلى ارتقائه، مجاملًا بمشاركته يوسف السباعي وزير الثقافة ورئيس اتحاد الأدباء الافرواسيويين، وكان أمل وبعض زملائه من الأدباء الشباب اليساريين، أصبحوا موظفين فيه بلا عمل! وقد أشفق يوسف السباعي على معيشتهم البائسة، فاقتعد لهم وظائف رمزية في الاتحاد.
لذلك وجدتني أتحرش بأمل بعد الفراغ من قصيدته المهلهلة، مستفزًا إياه وقد بدل جلده الشعري في هذه المناسبة! بل إنه استبدل بدلة بقميصه وبنطاله البسيطين!! رادًا عليه الصاع صاعين في مناكفاتي إياه في مقهى ريش، بلغت ذروتها بعد أيام في مطعم اتحاد الأدباء والكتاب، ذات يوم نفسي عاصف، والصديق الروائي المصري جمال الغيطاني، يحتفي بخطيبته ماجدة الجندي الصحفية بمجلة «صباح الخير» على مائدة غداء رومانسي، أحسب أنني وأمل أفسدنا رونقها في ذلك اليوم!!!
في اليوم الأخير من الحفل تقدم نزار قباني إلى منصة الإلقاء، وقد أنهكته عملية القلب.. بدا ضعيفًا شاحب الوجه، لكنه سرعان ما استرد عنفوانه، فانطلق صوته الاحتجاجي الآسر يرن بين جنبات القاعة الفخمة من أول بيت:
ضوءُ عينَيْكَ أمْ هُمْ نَجمَتانِ؟
كُلُّهمْ لا يَرى.. وأنتَ تَراني
لستُ أدري مِن أينَ أبدأُ بَوْحي
شجرُ الدمعِ شاخَ في أجفاني
كُتِبَ العشقُ، يا حبيبي، علينا
فهوَ أبكاكَ مثلما أبكاني
عُمْرُ جُرحي.. مليونَ عامٍ وعامٍ
هلْ تَرى الجُرحَ من خِلال الدُخانِ؟
نَقَشَ الحبُّ في دفاترِ قلبي
كُلَّ أسمائِهِ … وما سَمَّاني
سرت روح في القاعة.. وأية روح؟!
إنها شبيهة بنشيد صوفي، يتصاعد درجة فوق درجة، فإذا جمهور القاعة المكتظة ذلك اليوم بشيوخه قبل شبابه، ونسائه قبل رجاله، ومستشرقيه قبل عربه، وناثريه قبل شعرائه، يأخذهم نزار إلى سماوات إبداعه وتجليات صوره، في موعد غرامي بالشعر والجمال:
صَدَقَ الموعدُ الجميلُ.. أخيرًا
يا حبيبي، ويا حَبيبَ البَيَانِ
ما عَلَينا إذا جَلَسْنا بِرُكنٍ
وَفَتَحْنا حَقائِبَ الأحزانِ
وقرأنا أبا العلاءِ قليلاً
وقَرَأنا «رِسَالةَ الغُفْرانِ»
أنا في حضرةِ العُصورِ جميعًا
فزمانُ الأديبِ.. كلُّ الزّمانِ..
ضوءُ عينَيْكَ.. أم حوارُ المَرايا
أم هُما طائِرانِ يحترِقانِ؟
هل عيونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ
أم عيونُ الأديبِ نَهرُ أغاني؟
آهِ يا سيّدي الذي جعلَ اللّيلَ
نهارًا.. والأرضَ كالمهرجانِ..
ها هي سوزان زوجة العميد، أراها تتحرك لأول مرة، فعلى مدى ثلاثة أيام من هذا الحفل البهي، ظلت متحفظة صامتة! وكأنها للتو تسمع كلامًا تفهمه!! إنها المسكونة بذاتها الفرنسية، رغم معايشتها الطويلة للغة العربية وتذوق موسيقاها، في صوت زوجها الكفيف، الذي يتلوها آناء الليل وأطراف النهار، متأثرًا بآي الذكر الحكيم، وهو ينغمها تنغيمًا أيما تنغيم بحضورها، ممليًا الرسائل والكتب على سكرتيره فريد شحاتة، وفي إلقائه المحاضرات فوق مدرجات الجامعة، أو في المنتديات داخل مصر وخارجها برفقتها. ومع ذلك ظلت سوزان متشبثة بفرنسيتها، وي كأنها خائفة من ذوبان هويتها في البحر العربي المتلاطم، ما كان زوجها إلا موجة عاتية من موجاته الزاخرة بلئالئه البلاغية وفيروزه الأسلوبي.
لقد تمثل نزار قباني تجربة طه حسين المديدة، وهو يقارع عقبات الحياة، وتقليدية التربية والتعليم، ومحافظة مجتمعه الصغير في مسقط رأسه «مغاغة» ومجتمعه الكبير في القاهرة منذ جاء إليها بدثار الحرمان والفقر، دارسًا في المسجد الأزهر، تحدوه روح نقدية ثائرة، ومتفاعلًا مع حراكها الوطني.
لذا راح نزار يخاطب عينيه الكفيفتين بنظارته السوداء:
ضوء عينيك أم حوار المرايا
أم هما طائران يحترقان
هل عيون الأديب نهر لهيب
أم عيون الأديب نهر أغاني
آه يا سيدي الذي جعل الليل
نهارًا والأرض كالمهرجان
ارم نظارتيك.. ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان
كمن حلق الطير فوق الرؤوس، هيمن الصمت على جمهور القاعة، إجلالًا لمقام العميد، وانبهارًا بشاعرية نزار، فإذا بسوزان تخرج عن سمتها المتعالي، وهي مشدودة منجذبة إلى قصيدته، فتهب واقفة من مقعدها متقدمة إلى نزار، وكأنها تود الطيران إليه قبل أن يصل إليها مسلمًا بانحناءة، أتقنها من طول خبرته الديبلوماسية في عدد من بلدان العالم.
يكاد القارئ متذوقًا أو ناقدًا لشعر نزار أن لا يجد عسرًا في الدخول إلى نصه، فهو منذ انطلق الشعر على لسانه أول مرة في رحلته البحرية إلى إيطاليا، حتى آخر نص كتبه قبل رحيله، وهو على خط مباشر بالقراء، اتفقوا مع شعره أو اختلفوا، يفهمونه من أول نظرة!
لم يكن غامض الأحاسيس كالرومانسيين، ولم يكن مطلسمًا كبعض الحداثيين، فنزار مرحلة وسطى، بين جمالية بدوي الجبل وفنية عمر أبو ريشة، في مدرسة الشعر العمودي، ومحمود درويش ومحمد علي شمس الدين وغازي القصيبي في مدرسة الشعر التفعيلي.. غير أن نزار قباني يمتاز بين هؤلاء جميعًا، بجمالية واقعية، زاوجت بين فصاحة اللغة العربية، واللهجة الشعبية الدارجة بألفاظها المستجدة، معبرًا عن بيئته الدمشقية بلغة «نزارية» تفوح منها رائحة البيت الدمشقي، وبهارات سوق البزورية، وروائح الحلويات الشامية في سوق الحميدية، حيث ولد سنة 1923 وقد قضى طفولته وصباه وشبابه، في بيت والده توفيق «صانع الحلويات» في حي مئذنة الشحم، وقد أسرى به الزمن الطفولي على شجرة النارنج تحتضن ثمارها، بينما دالية العنب في صحن البيت، محاطة بليلكة تمشط شعرها الذهبي - كما يعبر في كتابه «دمشق نزار قباني» - والورود بألوانها الخضراء والحمراء سجادة تحت قدميه، وأسراب السنونو فوق رأسه، وعشرون صفيحة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمه.
هذا البيت الدمشقي الجميل، الذي يمكنه بإغماضة عين أن يعد مسامير نوافذه، ويستعيد آيات القرآن الكريم على خشب أبوابه.
لقد استحوذ على مشاعره، حتى أفقده شهية الخروج إلى الزقاق، مستريحًا في حضن أمه مستأثرًا بدلالها، من بين جميع إخوته وأخته المنتحرة عشقًا! حيث الفيء والرطوبة، بينما والده يجلس في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته ومنقله وعلبة تبغه، وعلى صفحات الجريدة، إذ يتفاعل مع أحداث الثورة الوطنية ضد المحتل الفرنسي، تسقط زهرات الياسمين.
يقول الفيلسوف والناقد الفرنسي غاستون بلاشار، الذي اهتم بجمالية الصورة، معادلًا موضوعيًا للأشياء.. في كتابه الممتع «جمالية المكان»:
«حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، ننخرط لحظة الاسترخاء في ذلك الدفء الأصلي، فهذا هو المناخ الذي يعيش فيه الإنسان المحمي في داخله، والشاعر يعرف جيدًا أن البيت يحمل الطفولة بين ذراعيه».
هذا هو المفتاح الشعري لعالم نزار قباني كما يقول في كتابه «قصتي مع الشعر» إلا أنه لم يسلم من محافظي مدينته الدمشقية، رشقه بالحجارة والطماطم والبيض الفاسد، بعدما ثار على تقاليدها المحافظة في تغزله المكشوف بالمرأة، منذ ديوانه «قالت لي السمراء» سنة 1944 حتى قصيدته «خبز وحشيش وقمر» تمامًا كجده «أبو خليل القباني» مؤسس المسرح الحديث بين دمشق والقاهرة، وقد ورث منه مواجهة التاريخيين أي التقليديين، بالسلاح الأبيض.. سلاح الفن والشعر.
مرة من مرات زياراتي المتكررة لنزار، في شقته الأنيقة بحي نايتسبريدج اللندني، ساءلته عن مناوشته البارعة مع مارون عبود، الذي كتب منتقدًا واحدًا من دواوين نزار، مشيدًا في نفس المقال بجديد صوره، في دواوينه الأربعة الأولى.. هل كان يخشى شيخ النقاد اللبنانيين في رده النثري الرقيق عليه، وهو يشكر التفاتته إلى شعره الشاب، واصفًا إياه بشجرة السنديان، التي تنقر العصافير الصغيرة مناقيرها على جذعها الضخم.. فأجابني:
لا.. يا رضا.. ليست خشية وإنما احترام، فقد كان مارون عبود وجيله في لبنان.. ومنير العجلاني ومجايلوه في سوريا.. وأنور المعداوي ورفقاه في القاهرة، أساتذة بحق وحقيق.. ليسوا كأدباء وشعراء هذه الأيام، وقد صب جام غضبه على شعراء الحداثة العرب، من الذين فتكوا بقصائدهم الضبابية ذوق المتلقي العربي.
وفي جلسة أخرى أخذ على ابنة شقيقه د. رنا قباني تطاولها عليه، ولم يرتح لحديثها معي في برنامجي «هذا هو» إساءتها إلى طليقها الشاعر محمود درويش، الذي هاتف نزار مبتئسًا من تلك المقابلة. وكان نزار يعتبر محمود درويش أحد الشعراء الخارجين من معطفه الشعري. وهذا واضح لمن يتأمل دواوين محمود الأولى، كما هو تأثير أدونيس الواضح في دواوينه الأخيرة.
عاتبته ذات جلسة معه في نفس الشقة اللندنية على إساءاته لأهل الخليج، التي ابتدأت منذ قصيدته «الحب والبترول» فحكى لي مناسبتها في شخصية معينة غير سعودية، اقترنت بفاتنة سورية من أسرة معروفة، كانت تصحبه في حفلات الاستقبال و«الدواوين» وأردف:
إن المملكة لم تصفي معه أي حساب، لقد استقبلت أخاه د. رشيد طبيبًا في أحد مستشفيات الرياض لسنوات طويلة، دون أن تحمله أي موقف سياسي اتخذه نزار في شعره السياسي الذي توجه إليه بعد هزيمة 5 حزيران 1967.. بل إنه عبر لي ذات جلسة أخرى عن مشاعر الرضا والإعجاب، بما تحقق في المملكة من خطط تنموية، وقد استوقفته عمارة الحرمين الشريفين المدهشة، وهو يتابع صلاة التراويح فيهما طوال شهر رمضان منقولة مباشرة على قناة MBC
وفي السياق عبر لي عن مرارته من د. غازي القصيبي، الذي يعتبره أحد تلاميذ مدرسته الشعرية.. كيف يتلافى لقاءه أو زيارته في شقته، وقد أصبح سفيرًا للمملكة في لندن. وحين نقلت عتابه إلى د. غازي أرسل له باقة ورد، وعندما تعرض نزار لأزمة قلبية هي الأخيرة قبل وفاته بأسابيع، قام غازي بزيارته.. يقول في كتابه «بيت» صفحة 71:
ذهبت أزور نزار قباني رحمه الله في شقته اللندنية وكان خارجًا لتوه من المستشفى بعد غيبوبة استمرت بضعة أسابيع
كان منهكًا جسديًا، إلا أن انهماكه النفسي كان أكبر. كان حزينًا لأنه لم يعد قادرًا على كتابة الشعر. قال لي أن نهاية الشعر نذير مؤكد بانتهاء الحياة نفسها.
خرج يودعني، وهو يمشي بصعوبة متوكأ على عكازة طبية. عندما وصلنا باب الشقة، توقفت ونظرت إليه، وقلت ”ارم عكازتيك!“ أدرك على الفور أني أشير إلى قصيدته الجميلة في طه حسين وتهللت أسارير وجهه. بدأت اقرأ الأبيات الأولى من القصيدة التي تبدأ ”ضوء عينك أم هما نجمتان“.
كنت أقرأ وأنا أرى معجزة طبية تحدث أمامي. عاد اللون الوردي إلى الخدين الشاحبين. سقط العكاز. ذهبت التجاعيد عن الوجه الذي رجع بغتة إلى الشباب. عندما انتهيت همس وهو يعانقني، ”أرأيت كم هي جميلة هذه الأبيات؟ كم هي بديعة، كم هي سلسلة؟“
وانتهت اللحظة المعجزة.