الإدمان التقني وآثاره الاجتماعية
أعتقد بل أكاد أجزم أنه وفي ظل ما نعايشه في تلك الحقبة الزمنية الحالية من مسيرة حياتنا، وما طرأ عليها من مدخلات مختلفة، ربما يعارضها البعض والبعض الآخر لا يكترثون لها كثيرا! ويعود هذا لأسباب عدة منها: التوجهات والمبادئ والأفكار والقناعات التي يحملها ويتبناها البعض، سلبيةً كانت أم إيجابية، وخصوصا ممن يُحسَبون على زمن بات بعيدا إلى حد ما كالجيل الذي وُلد ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
فهذه الفئة من الأشخاص هم ممن عاصروا وعايشوا زمانًا كانت فيه تلك الحداثة الهائلة وبأشكالها المختلفة مجرد أضغاث أحلام! وربما لم تلد أساسا حتى في العقل الباطن لتلك الأجيال آنفة الذكر.
وعندما نعود بذاكرتنا للوراء قليلا ونمعن النظر في كيفية تعاطينا لنمط الحياة الاجتماعية التي عاصرها البعض في الفترة ما بين الحقبتين المشار إليها في بداية سطور هذه المقالة، لوجدناها تتصف بالسهولة المطلقة من حيث تواصل الأفراد بعضهم ببعض فكان لذلك الأمر طُرقه البسيطة التي يجمع عليها أهل ذلك الزمن الجميل كما يحلو للبعض أن يسميه بذلك الاسم. ويعود ذلك لخلوه من الرسميات وبعده عن التكلف والروتين المصطنع، بل ويمتاز بحسن النوايا ومتانة الروابط الأسرية واحترام العادات وتبجيل القيم المتوارثة والتي يعود مصدرها لإرث مجتمعي متجذر وأصيل.
ولكن سرعان ما تبدل الحال ووصلنا لوضع لم يكن بالأمس القريب بالحسبان، بل غير مُرضٍ عند البعض، فعندما نضع ذلك الحدث وتلك النقلة النوعية في هذا المضمار، وما وقع من متغيرات على النظام الاجتماعي حتى وصل ذلك الواقع لخضم مقدراتنا ومكتسباتنا الأخلاقية والقيمية والإنسانية ويرجع ذلك بحسب علماء الاجتماع والمهتمين بتلك الدراسات، فالقفزة التقنية الكبيرة الحاصلة الآن من تطور في شتى المجالات، لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي بجميع تعدداتها المختلفة والتي بسببها ذهبت معظم ممارساتنا من حيث عقد اللقاءات، وتكثيف السؤال والمواظبة على زيارة الأرحام، والحرص على حضور المناسبات، والتردد على مجالس الجيران، والاهتمام بالأحبة والإخوان. فهذه كلها سلوكيات لا نبالغ إن قلنا أنها أصبحت في ذمة الماضي وذاكرة الأيام!
وبعد رحيل تلك الفترة وُلد لنا زمن فيه عجب العجاب، فقد تخلينا عن كل ما ذكر من مواصفات كانت بمثابة ثقافة الآباء والأجداد، لما تحمله في طياتها من معانٍ سامية، ومكارم الأخلاق ونوايا صافية، وبراءة الأفعال واستبدلت بحقائق - لا مفر منها - لواقعنا المعاش.
نعم أصبحنا في وقت لا مكان فيه لما ذُكر أعلاه. فقد تحول الحال لحالٍ مغاير لما كنا عليه على الإطلاق؛ فاستسلمنا دون مقاومة ذاتية لتلك التقنية وما يتبعها من سلبيات ومحتوى مدمر تجاه شبابنا وشاباتنا معظمه مغلف بغلاف ما يسميه البعض «التطور والحداثة» والتي يقضي السواد الأكبر من أبنائنا تحت رحمة تلك الوسائل التي ساهمت بشكل واضح للجميع أنها إدمان للكبير قبل الصغير؛ لما نقضيه من أوقات ليست بالقليل نكرس جُلها مع الأسف الشديد بتوافه الأمور وتبادل الرسائل الخاوية والمطالعات الغير مرضية، لدرجة أضعفت التواصل بين أفراد الأسرة وهم داخل منزلهم. فنرى الأب يحادث زوجته هو في اتجاه وهي في اتجاه آخر! وكذلك الأم تتواصل مع بناتها هي في واد وبناتها في واد بالرغم أنهم جميعا في نفس المكان. وهناك الكثير من الأمثلة تقف شاهدا لذلك ولكن لا داعي للحديث عنها احتراما وإجلالا لمشاعر إخواننا وأخواتنا، فهم خير من يعرف القصد من حديثنا هذا، حتى وصلنا لمفترق بعدنا من خلاله عن الكثير من قناعاتنا وجميل فكرنا وسلامة فطرتنا، حتى أدى ذلك الواقع لقلة ترابطنا والتخلي عن الكثير من الإحساس ببعضنا، والذي بدوره أضعف علاقاتنا الإنسانية واندماجاتنا الأسرية. فبعدها سنصل لنتائج وخيمة بائسة ستحط بظلالها وظلامها على مجتمعنا، وسنكون مفككين مفرقين نفتقد لروح الجماعة ولا نستشعر آلام بعضنا وهذا يضعفنا ويذهب بمجهودنا أدراج الرياح ومخالف لما جاء به الحق - تبارك في علاه - قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ . «سورة آل عمران الآية 105».
وقبل الختام لا نختلف على ضرورة تلك التقنيات وما لها من فوائد جمة في تذليل الكثير من الصعاب، فضلًا عن أنها وسائل تسهل لنا العديد من الإجراءات التي لها دور فاعل في تسهيل متطلبات حياتنا اليومية والعملية، وكذلك الحصول بواسطتها على مختلف المعلومات اللازمة لتسيير مصالحنا الخاصة والعامة، بل باتت ضرورةً لا غنى عنها. ولكن ما هو مطلوب هو حسن التدبير، وكيفية التعامل معها بعقلانية واتزان على أنها وسيلة للانتفاع منها للوصول لما نريد تحقيقه لمقاصدنا العليا من تطور واقتدار وبناء الذات؛ لنسمو بأنفسنا وأجيالنا لمكانة نستحقها من التقدير والاحترام وليست غايةً نركن إليها ونستسلم لمغرياتها وما يعرض من خلالها لكي لا نكون خاسرين ضعفاء يائسين محاطين بالهزيمة ومن النادمين. سائلين العلي القدير أن يحمينا من شرور أنفسنا ومن يعز علينا إنه نعم المولى وهو خير الحافظين.