آخر تحديث: 5 / 12 / 2024م - 12:40 ص

شااااهقٌ هو الموت..

عقيلة آل حريز *

شاهقٌ وعميق.. ويأخذ بتفاصيل حزنك ناحيته بصورة لا تملك ردها..

ليست من خريطة واضحة عندي وأنا أودع أمي الوداع الأخير، ما زالت الرؤية مشوشة فلا وجهة للحزن بداخلي سوى الحزن بكل مداراته الحزينة..

شعور يشبه نكء الجرح باستمرار دون قدرة لوقف نزفه..تتغير تفاصيل الحياة لديك في محطته، فلا تعود الأمور كما كانت عليه.. إنه أمر يشبه أن تسخر من الحياة أو تسخر منك الحياة، تختزل العمر في لحظة الفقد كما يليق بحبس أنفاس ضعيفة في صندوق خشبي مسدودة منافس الهواء فيه.

كنت أراها بكل حالاتها زاهية بخطواتها، تضحك للحظات من العمر، فتقفز السنوات وتكبر دون تمهل ما تمنحه لها، ترتسم الآن صورتها بذاكرتي، صغيرة، فتية، متفتحة تسقي النهارات على مروج العمر، منطلقة بعافيتها وحجم مسؤولياتها، تحضر قنينة حليب لأحد صغارها، تعبر كبرق خاطف بفستان أزرق مكحل الزوايا بالورود الندية.. تجمع ضحكتها العفوية، لحظاتها السريعة، مشاعرها المختلفة، غضبها غير المكتمل وأمانيها المستقبلية، تخلق لحظة اكتمال لرسمة تخطها بتطلعاتها في توجيه خريطة قبيلة من الأبناء رزقتهم، لا تبتغي خيبة الفقد فيهم، ولا بأحد منهم، لكن العمر يباغتها بما تخشاه، أراها بمشهدية الحدث وأنا صغيرة بقربها، تمسك القلم بيدي وهي التي لا تجيد كتابة الحروف لتدفعني لأواصل حل واجباتي بوقت متأخر، أراها صادة رادة، تحلم وتتمنى، تحزن وتتألم، وتبتسم ضاحكة، أعرف تلك الابتسامة لازالت حاضرة بذاكرتي، فتية في بريق عينيها.. وتمر لحظات من العمر، من سنوات الألم والفقد تبرق خاطفة بها، تشيخ فجأة دون طفولة عاشتها، تسرق منها ابتسامتها وأمانيها، تقرب وتبعد، تغالب الشوق ومواجع الحياة، وتفقد أحبابها تباعًا، فيرحلون مع مغيب الشمس، فتصمت أمي، تصمت طويلًا كأن الأمر أكبر من دفعه بمجرد كلمات، تخيب رؤيتها كثيرًا وتنهزم بمعارف ومواقف وتزداد صمتًا، تخشى أن لا يلحق جسدها بعقلها أمام حركة التسارع هذه فتزداد صمتًا.. كأن صمتها يخبرنا بأنّ العالم أقل قدرًا مما يستحق.. تطوف بي صورها المتناثرة في ذاكرتي، تعود من ليالي القدر مضمخة بعطر القبول، باسمة متهللة بصلاة تؤديها وأدعية من النور تتلوها وتسابيح تنشدها وبركة حضور تحملها بمسباح يتهلل في يديها..

شااااهق هو الموت.. شاهق وهو يفقدك الأحبة واحدًا تلو الآخر، فيضيعون في زحامه تباعًا، لطالما كانت تردد جملتها هذه: ”نحن أموات وأبناء أموات، كلنا مغادرون ومرجعنا بالأخير لله“

هاهي تنطفئ فجأة، تسافر سفر الموت، تحترق كورقة أشعلها عود ثقاب في ثوان معدودات، دون فرصة للتوقف، للعودة، للمفاوضات، الجسد الناضح بالحياة يذوي، الذهن منعزل في حضوره، الحديث مغلق، وبقي النَّفَس يعلو بصدرها لمسافة ضيقة، أراقبه يصعد، وأخشى من اللا عودة في ارتداداته، تأملتها صفراء هشة كورقة خريف استعجلتها طقوس الحياة في حضن الموت، ترتجف من لملمته فيها، جسدها ضئيل لا يكاد يشبهها، ملامحها تعود لطفلة أرعبتها الحياة فقررت القفز منها ناحيته دون عودة، ناضحة بلحظاتها الأخيرة بعرق الموت يبلل فراشها دون توقف.. أقترب منها بقلق أحاول استكشاف ألمها لأجسه، فأنا الشخص الذي تبدو الحياة في نظره رغم قسوتها ممكنة الاحتمال بوجود الأم..

أقف بدهشة مربكة.. أتحسس ضعف جسدها.. رقة جلدها.. دقة عظمها، تهاوي الحياة فيها.. أراقب عينيها الغائرتين.. وأبحث عن صباها في التماعتهما، أخاطبها بوجل ”أمي“، ليته بي ما تجدين ولا بكِ، فتهتز وجنتاها باختلاجات سريعة وهي في حضرة الموت، كأنها تقول فداكم أنا وعمري..

تآكلت أمي من الداخل لكثرة الأشياء التي لم تقلها ولم تفعلها، لكنها كانت تضيء للآخرين، تضيء حتى بدت لنا كالبدر في السماء.. غابت ضحكة أمي التي تواسي الحزن في قلبي، غابت عنا المرأة التي تأنس بالهوامش وتسعدها بساطة الحياة فلا تميل لتعقيداتها، وتحن إلى الظل دومًا ولا تعشق الضجيج.. تجول القصص في عينيها.. وتشعر بحظ الفرح الكبير حين تقابل أحبابها في منعطفات الحياة صدفة كفيضان كوب امتلأ بالمطر..

غادرتنا واختفت صفرة المرض من وجهها، واختفى ثقل الحزن من عينيها، كانت مضيئة.. نيّرة الوجه.. طالعها التبسم.. كان يومها قصير كشجرة غريبة اخضرت ومنحت ثمارها زاهية مشتهاة، ثم جفت واحترقت.. جاء الأمر هكذا سريعًا بلا توان، غابت أمي فاتسع سواد الحزن في قلبي وشاهدت طقوس موتها حتى لحظة دفنها، غابت وكأنها بغيابها تخبرني أن هذا العالم ليس لنا.. كان الأمر أشبه بحلم، نسافر به في اللحظات المحرجة، حلم نلتقي فيه بذكرياتنا القديمة، لكننا نعرفها، لأنها تشبهنا في عمقها..

قاصة وأديبة وصحفية سعودية «القطيف»