عبدالله مهدي.. أحد رواد الفن في المملكة يرحل عنا
ما أن نلتقط الأنفاس ونكفكف الدمع لفقد عزيز إلا ويخطف الموت عزيزا آخر، وكأن هادم اللذات يتربص بالأحباب المقربين إلى قلبك، المحببين إلى نفسك،
خطف أرواح دون إخطار ولا إشعار، نصبح على نبأ رحيل أحدهم ونمسي على رحيل آخر، ليتضاعف الحزن على الحزن، يحاصرنا الأسى ويسيجنا الخوف ليدنينا من رعب النهايات، تضيق الرؤية والغشاوة سواد، نبصر الدرب بتعثر وسط مشاغل الدنيا التي لا تنتهي، نقسر الأقدام خطوا لعلنا ننسى الأحزان، نقوى بعض الشيء تجملا ولكن فجأة ترتبك كل الخطوات على وقع كلمات الفناء، نسمعها فيتزلزل الكيان.
بالأمس وعند الرابعة عصرا رنّ جرس جوالي وكان المتصل الأخ عباس المختار رددت عليه معتقدا في ظني بأنه سوف يسألني عن أمر فني كما العادة، وبعد التحية والسلام، قال لي هل أبلغك عبد الغفور النصر برسالة ما، قلت له لم أفتح الواتس منذ ساعتين تقريبا وربما أكثر، فهم من ردي بأنني لا أعلم شيء يريد أن يخبرني به، قال ما سمعت شيء عن أبي أشرف قلت لا، مستفسرا منه هل هو مريض تريد أن نزوره، لكن لم يخبرني بأن به أي عارض، فقبل ليلة البارحة كان يرسل لي رسائله المعتادة،
بعد صمت لثوان قال لي بصوت خافت، ياعزيزي
أبو أشرف أعطاك عمره، نعم! ماذا تقول يا أبا فاضل؟، أعد الجملة، أبو أشرف في ذمة الله، معقولة، يا الهي ما هذا الخبر المفجع، منذ متى؟، اعلان الوفاة منشور في أخبار المجتمع - سيهات، أرسله أبو هادي أكيد بعثه لك.
ربكة كلام والسماع طنين، أغلقت الجوال متصلا في الحال بعبد الغفور النصر بعد أن اطلعت على رسالته على عجل وأجاب: «العزيز أبو أشرف الله استخاره إلى جواره ظهر هذا اليوم»، ياالله، ربي رحماك، تبدلت مشاعري رأسا على عقب تائها لوقع المفاجأة وهولها، لا أعرف أن أسترسل في الكلام، مرتعد الفرائص، خبر صادم غصة في الحلق.
دنوت من مقبرة سيهات وصوت تلاوة القرآن منبعث من المايكرفون يجلل المكان وحشود عند المغتسل، احتضان مع عبد الغفور ومكبر الصوت يتلو الآية الكريمة «يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور»، بعد صلاة المغرب بنصف ساعة شيعته الجموع وسط تهليل وتكبير، قرأنا على روحه الفاتحة عند مثواه الأخير.
رجعت للبيت أسوق سيارتي وحيدا إلا من حزني أنفث الآهات وأُردد شجن عراقي «والعمر شمعة انطفت...».
قبل يومين ودعنا المعلم عبدالله خميس مساء السبت ويوم الثلاثاء ودعنا المعلم عبدالله مهدي، معلمان فاضلان أضاءا عقول الطلاب علما ونورا، تركا آثارا طيبة لا تمحى عند المجتمع المدرسي وفي حياة الأصحاب والمجتمع، جعل الله قبرهما ضياء ونورا.
وببالغ الحزن والأسى وشهقة الأنفاس، أسلط الضوء على
على بعض من سيرة الأخ العزيز الفنان عبدالله مهدي في السطور الطويلة والمتداخلة لعلي أقرب الصورة للقراء الأعزاء.
تعرفت على شخصية عبدالله المهدي أول مرة في الغرفة التجارية بالدمام سنة 1976 والمناسبة معرض مسابقة الفنون التشكيلية السنوية التي تقيمها رعاية الشباب والتي تظم نتاج فناني الأندية الرياضية لكل مدن وبلدات وقرى المنطقة الشرقية، وبينما كنت أتجول في المعرض مندهشا بالأعمال الفنية، قدمني أستاذي عبدالله علي آل حسين الذي عرفني بالمعارض وأخذ بيدي بمصافحة عبدالله مهدي، رحب بي وبحرارة قال لي: «لوحتك - تأثيرات حمراء - جميلة، استمر سوف يكون لك مستقبل مشرق»، فرحت بثنائه ومدحه لعملي البسيط، كلام من فنان متميز له أبلغ الأثر في النفس، عرفت في الحال بأن الاثنان كانا زملاء دراسة في معهد التربية الفنية للمعلمين بالرياض سنة 1973، ويعتبر المهدي خريج الدفعة الثالثة للمعهد في عصره الذهبي حيث تتلمذ على يد الفنان العراقي سلمان الدليمي.
ومنذ تلك اللحظة التي أتت وسط جنبات المعرض أصبحنا أُخوة، نتقابل باستمرار، نتزاور، نتناقش في أمور الفن والحياة، نسافر لمعرض هنا وهناك، حتى شكلنا
مجموعة مصغرة من خمسة اشخاص منذ أكثر من عشر سنوات يتكون من «عبدالله علي حسين وعبدالله المهدي وعبد الغفور النصر وعباس المختار وكاتب السطور»، نذهب لفعاليات عديدة خصوصا إلى مملكة البحرين، وقد أشرت في مقالة سابقة عن تجمعنا ضمن سرد ثلاثية «زمن الطيبين» وفحواها عن فوائد ثمار البمبر، متطرقا لإحدى رحلاتنا الفنية الجميلة.
كل الصفات الجميلة تتمثل في شخصية عبدالله مهدي الإنسان والفنان والمنعكسة في توأم روحه الملازم لظله، اثنان من فناني المنطقة شكّلا صحبة طويلة هما، الأستاذ الفنان المبدع علي هويدي والأستاذ الفنان المتميز عبدالله المهدي، صحبة استثنائية ايقاعها ممتد من بواكير الصبا إلى فترة الكهولة، حبهما للفن وقربهما مع بعض جعلهما يسهران في فترة الشباب طوال الليل إلى وقت تباشير شمس الصباح يرسمان، يتجليان مع الفن والانجاز، فكانا من الأسماء اللامعة منذ انطلاق معارض رعاية الشباب في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكل الصحب يعرف ملازمة بعضهما البعض، ما أن تقابل واحد منهما فلابد أن تقول ما هي أخبار صاحبك لشدة العلاقة المتينة بينهما، علاقة أخوية، فنية، اسرية، ورفقة متميزة في الغدو والرواح، دائما يطيب لهما زيارات معظم مراسم فناني المنطقة والتحدث معهم عن قرب بين فترة وأخرى، وإذا أتيا إلى منزلي كأن هلال العيد معهما حل، كم أُسرّ حين يزوراني مساءات الخميس، يتحدثان عن ماض سيهات الأمس وحراك الفن وبدايات المعارض وأسماء الفنانين وبراعة هذا الفنان وقدرة تلك اليد، وتأخذنا الأحاديث بعيدا في تاريخنا التليد، عن حياة الآباء والأجداد ونساء أول، وعن تبدل أحوال الزمان والمكان جغرافيا وتاريخيا، حين يستئذنان مني عند الثانية فجرا دون ادراك للوقت، أقول لهما ”حين احلوة الجلسة تذهبان“!، يردد بمحبة بالغة ”سنعاود الجيات إذا في العمر بقية“!
عبدالله المهدي فنان تشكيلي حاز على إعجاب المسؤولين في رعاية الشباب الأمر الذي تم على اثره اختياره ضمن بعثة خارجية لدراسة الفن في أمريكا مصحوبا بشهادة تميز من معهد التربية الفنية للمعلمين وهي التي خولته ودعمته أكثر.
ولكن وبكل أسف بعد مرور سنتين على الدراسة مر بظرف خاص وقاهر حال بينه وبين تكملة الدراسة فرجع مجددا لمهنة التدريس، ثم تقاعد قبل عشر سنوات بعد أن بلغ السن النظامي، أخذ يجري ويمارس رياضة المشي يوميا متفائلا بالحياة برغم خضوعه لعملية القلب المفتوح في بلاد العم سام، أتى بعد نجاح العملية وراح يتواصل مع الأصدقاء لكنه ودع الريشة منذ سنوات وأصبح في حالة جفاء مع اللوحة!
الأمر الذي ابعده عن التقاط اسمه ضمن احتفالية رواد الفن التشكيلي في المملكة التي عقدت قبل 3 سنوات في الرياض، وكان يستحقها مع زميله علي هويدي، فهما بالفعل وعن جدارة يستحقان التكريم لكنهما غُيّبا وربما نسيا، وأيضا المرحوم ميرزا الصالح، المجايل لهما تجربة وعمرا، وكذا الفنان عبدالله علي آل حسين، الغريب في الأمر، بأن التكريم أتى لأناس أصبحوا في عداد المتوقفين عن الفن ومنذ زمن، فقط استحضروا من الذاكرة بينما غيب آخرون يشابهونهم تماما وربما أقل بكثير من انجاز من ذكرت أسمائهم اعلاه، ومشهد التكريم في بعض اختياراته يذكرني بالمثل الشعبي: «البعيد عن العين بعيد عن القلب»!!.
لكن كثير يستحق الاحتفاء وجزء قليل استطاع أن يلمع صورته بنفض الغبار عنها، فوقع عليه الاختيار وهو حق مشروع ومن لم يكترث بسيرته ضاع في دروب النسيان.
لكننا لن ننسى الفنان التشكيلي عبدالله المهدي، الفنان المبدع، فقد أفردت صحيفة اليوم عبر ملحقها الثقافي الأسبوعي «المربد - 2785» بتاريخ يوم الاثنين 10 ربيع الثاني 1400 الموافق 28 يناير 1980م، ثلاثة أرباع الصفحة عن فنه بقلم الفنان والصحفي أحمد المغلوث مشرف صفحة فنون تشكيلة وجاء في المقدمة: "هذا الأسبوع يطل علينا وجه من واحة القطيف.. هو معروف بين أقرانه وزملائه الفنانين كفنان صاحب اتجاه فني مميز إضافة إلى ثقافته وحيويته ومثابرته المستمرة في تقديم الجديد من الأعمال التشكيلية المبدعة.. وكيف لا والفنان عبدالله مهدي من الفنانين القلة الذين يدركون أبعاد الفن التشكيلي وما يثيره من متعة ما بعدها متعة لدى الذين لديهم هذا الميل وذاك الشغف وهذا الهاجس الداخلي الذي يمور باستمرار ويتدفق عطاء ووجودا..
والمتعة بالنسبة لفناننا عبدالله مهدي هي أن يحيل اللوحة البيضاء إلى وجود ذا مغزى وشكلا مثيرا يعطي دلالاته الفنية التي بها يخاطب العالم وتجسد انفعاله وموقفه منه..." - انتهى الاقتباس -. وقد قدم فناننا الراحل أكثر من اتجاه فني من الواقعية إلى التأثيرية إلى التجريدية وأغلب أعماله مستلهمة من البيئة المحلية.
وعنه يقول زميله الأستاذ الفنان عبدالله على حسين الذي رافقه على مقاعد الدراسة وكذا في دروب التدريس الطويلة بعد أن سمع بخبر رحيل صديقه ليلة البارحة: " أقدم العزاء لنفسي ولأخواني ولزملائي ولمعلمي التربية الفنية وللأخوة الأعزاء الذين عرفوا هذا الشخص، طيب الأخلاق، صاحب القيم العالية، لم يكن عبدالله مهدي فنانا تشكيليا فحسب، إنما هو الفنان بما تعنيه كلمة فنان، فنان تشكيلي ليس مجرد رسام بالفرشاة واللون الزيتي، كان فنانا في مختلف أنواع الفنون، في النسيج، الخزف، خامات البيئة، النحت، وله تجارب عديدة وقدم ورش عمل لمعلمي التربية الفنية على مستوى المنطقة وخارجها.
عندما كنا ندرس في الرياض، كان عبدالله مهدي متفوقا، خصوصا في مادة الخزف، حتى معلمي المعهد يعتمدون عليه اعتمادا كليا في تشكيل الصلصال والحرق والتگليز،
وأيضا بارعا في طباعة المنسوجات، سواء طباعة الباتيك، أو طباعة اللاينو «الجرافيك»، وأيضا تشكيل المعادن، عنده مهارة جدا قوية، ودقة منمنمات تشكيلية،
يفتقدها أي فنان آخر.
مرة أخرى أعزي نفسي وأعزي زملائي وهذه سُنة الحياة، ولكن افتقادنا لمثل هؤلاء الأشخاص خسارة فادحة للساحة الفنية على مستوى المملكة.
رحم الله الفقيد وأسكنه الله الفسيح من جناته وحشره الله مع محمد وآل محمد الأطهار، الفاتحة لروحه ولأرواح أسلافه ولكافة المؤمنين والمؤمنات.
أشهد بأن الفنان عبدالله المهدي يده ماهرة في كل مجالات التشكيل وله ذائقة فنية عالية وذاكرة دقيقة في وصف المعارض القديمة ويسرد أسماء أجيال الرواد، وأيضا يمتاز بتحليل للعمل الفني بأسلوب شيق.
سلام على روحك الطيبة ياعبدالله مهدي، سلام على كل لحظة جميلة نثرتها في وجوه الجميع، فقد كنت جميلا لم تعرف للزعل محلا ولا للجدال اقناعا، عفيف اللسان عن كل ما يشين، مسالما، كافا عافا، لحديثك جاذبية وطلاوة، حضورك خفيف الظل، وجهك طلق المحيا، نفسك كريمة سمحة مع الصغير والكبير، تسأل عن الصحب أينما كانوا، مبادرا بالسلام ومتواصلا مع الجميع بروح حانية، رحيلك لا يعوض وكأن جزء من أعمارنا رحل، جزء من ذاكرتنا فُقد، لأنك أحد الأشخاص الذين ملؤوا حياتنا صفاء ومودة آسرة ومحبة رائعة، كنت يا عزيزنا متهيئا لسبغ وضوء صلاة الظهر وما أن انتهيت حتى فاضت روحك وصعدت لبارئها، هنيئا لك بهذه النهاية
وأنت طاهر البدن بنية القلب متجها لربك الأعلى.
سلام على روحك المسالمة.