المهمشون... لماذا يصمتون؟
في مسرحية «الزنوج» للكاتب الفرنسي من أصول جزائرية جان جينيه، «1910 - 1986»، التي عرضت في باريس 1958، يتم إلباس ممثلين من الزنوج أقنعة ليؤدوا أدوار النخبة الاجتماعية من البيض، هؤلاء قاموا بدور المحققين في جريمة بطلها قاتل أسود أُتهم باغتصاب امرأة بيضاء، يُحاكم النص نظرة الاستعلاء العنصرية نحو السود، وعبر لغة المحاكاة الساخرة يشترك الجمهور الأبيض في الأداء التراجيدي على خشبة المسرح، حيث ينجح الممثلون السود في دفع المشاهدين نحو عالمهم المسكون بهواجس التمييز وقلق الهوية، عندما يندمج الجمهور مع الأداء المسرحي، منفعلاً ومتفاعلاً مع قضية تستدعي كل عناصر الإثارة والحماس والتشويق، وأيضاً الانحياز... فأصبح الجمهور شريكاً - مع القضاة - في الحكم والإدانة، دون الحاجة لمراعاة ظروف القضية وأسبابها، ما دام الجاني أسود والضحية بيضاء. وفي لحظة محددة من العرض تسقط الأقنعة عن وجوه الممثلين الزنوج، لتنكشف أمام الجمهور حقيقة الأحكام النمطية تجاه الأعراق والأجناس...
المسرحية كانت محاولة لتعرية الخطاب العنصري. بل إنها كانت تمضي أبعد من ذلك، كانت تفضح الميول العنصرية الدفينة في الوجدان الإنساني. نجح كاتب النص جان جينيه، المهموم بقضايا المهمشين والحامل على كاهله معاناتهم من أفريقيا والجزائر وفلسطين حتى السود المهمشين في الولايات المتحدة، نجح في دفع السود لكي يؤدوا بأنفسهم الدور الواجب عليهم في استثارة قضيتهم والدفاع عنها... بإمكاننا أن نقرأ سيرة المهمشين عبر مئات الأعمال التي كتبها الروائيون أمثال: فيكتور هيغو في «البؤساء»، ودوستويفسكي في رائعته «مُذلون ومُهانون» عن حياة الفقراء، لكننا نفتقد تلك الأعمال التي يكتبها المهمشون أنفسهم، مهما كان نوع ومستوى التهميش الذي يرزحون تحته، الكتابة أصبحت متاحة للجميع، والثورة الرقمية وثورة الاتصال أحدثتا ثورة اجتماعية في عموم العالم، وأعطتا صوتاً لكل المهمشين للتعبير عن آرائهم، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام البديل، منصات للتعبير، وساهمت في تحرير العقل من سطوة المعلومات والأحكام المعلبة. واجتذبت وسائل التواصل الاجتماعي جيوش المهمشين الذين احتلوا المقاعد الأمامية، وأعادوا تشكيل الفضاء السيبراني بسرديات لا تمت بصلة لقضاياهم، ولا تدافع عن حقهم الإنساني في العيش الكريم المتساوي، أو في التعبير عن إنسانيتهم.
ورغم تعددها، ما زالت أصوات المهمشين يتردد صداها من حناجر لم تعرف التهميش، ولم تعرف آلامه أو تلعق مرارته، ثمة أعمال أدبية كتبها روائيون خليجيون تناولت بعض قضايا المهمشين، بعضها مارس الحفر في الوعي الجمعي، والبعض الآخر لامس تلك القضايا بسطحية سردية. في أطروحتها «روائية الهامش؛ التجربة الخليجية نموذجاً»، اشتغلت الكاتبة العُمانية الدكتورة منى السليمي، بالبحث في تمثيل هامش السود في الرواية الخليجية، وأفردت فصلاً كاملاً للحديث عن «الهامش العرقي»، اختارت لمقاربته ثلاث روايات رئيسة، وهي: رواية «الأشياء ليست في أماكنها» للعمانية هدى حمد، ورواية «القار» للسعودي علوان السهيمي، ورواية «لأني أسود» للكويتية سعداء الدعاس، إلى جانب ست روايات مساندة غذت مباحث الدرس، وهي: «الشويرة» للعماني محمد بن سيف الرحبي، و«شارع العطايف» للسعودي عبد الله بخيت، و«سيدات القمر» للعمانية جوخة الحارثي، و«الطقاقة بخيتة» للسعودي محمد المزيني، و«تبكي الأرض يضحك زحل» للعماني عبد العزيز الفارسي، و«ذكريات ضالة» للكويتي عبد الله البصيص.
وقالت لنا ذات حوار: «لفتني تباين معالجة هذه الروايات للموضوع بمستوياته المختلفة «...» فقد وجدتُ أن بعض الروايات المنتقاة اختارت التعبير عن موضوعها بجرأة، مقتحمة المحظور، مخترقة أسيجة الذوق التي نصبها المجتمع لحماية واجهته البراقة، لا سيما أن هذا الموضوع بقي لعقود من عمر الرواية في الخليج مسكوتاً عنه، حتى ظهر بوتيرة لافتة في العقدين الأخيرين، في خضم موجة حرية التعبير التي رافقت أزمات الوطن العربي، وأسهمت في طرح موضوعات حساسة كان تناولها فيما مضى مغامرة غير مأمونة، كالطرح الطائفي وغيره من الموضوعات».
الهامش يمكنه أن يمنح صاحبه تميزاً، متى أراد... تقول الروائية النمساوية الحائزة على جائزة «نوبل» للآداب عام 2004، إلفريده يلينيك، «إن المرء حين يكون على الهامش يظل أبداً مهيأ للقفز قليلاً، ثم قليلاً، في الفراغ الذي يجاوز الهوامش».