عبدالله خميس يغادرنا بصمت
بالأمس لفتني عنوان للشاعر المصري مصطفى الكحلاوي بعنوان «رجل من القطيف الأستاذ عبدالله خميس»، حينها تبسمت ولم يسعفني الوقت لقراءة المقالة، ومرد الابتسامة لروح الدعابة والمناكفة الودودة التي تجمع الاثنين، ضننت في البدء بأن الكحلاوي على وشك انتهاء خدمته في المدرسة الأهلية بالقطيف وحب أن يودع مديره عبدالله خميس بالثناء عليه، وقلت في خاطري ربما هي سطور من شيم شاعر مصري رقيق المشاعر حب أن يستذكر العشرة الطيبة، وأيضا تقديرا ووفاء للصحبة الطويلة التي جمعتهما خارج نطاق الوظيفة، هكذا ظننت وليت ظني كان صحيحا، آه لقد خابت كل الظنون ولم أدر بشيء الا عصر هذا اليوم حين وجدت فرصة من الوقت لأقرأ العناوين، وثمة كتاب حريص على قراءة ما يكتبون لتميز أقلامهم - حسب وجهة نظري الشخصية -، وبشكل تلقائي لفتني عنوان لصاحب القلم الجميل ناجي الفرج بعنوان ”تعجلت الرحيل يا أبا علي“ فهممت بالقراءة معتقدا من خلال العنوان بأن أحد أصحاب الكاتب رحل عن دنيانا الدنية، لكني بمجرد أن وقعت عيناي على الكلمات الأولى أصبت بالذهول فتوقفت عن القراءة فذهبت لصفحة الوفيات لأتأكد منذ متى تم النشر، قرأت خبر الوفاة مع تأمل طويل في صورة الراحل غارقا في الحزن والأسى، موجوعا رحت أقرأ المقالتين المذكورتين لمرتين متتاليتين، وكذا مقالة قصي الخباز ”وداعا أيها السمير“.
بدأت انفاسي وجلة والهواء خانق، رحت أستغيث بالآيات المطمئنة. يا أبا علي أي وداع أودعك وأي الكلمات تحضرني لأرثيك، يا ذا الوجه الباسم والخلق الكريم، والنبرة الهادئة في التحدث، أدبك جم بسعة أفق في الأدب والفكر، كم استأنس حين ألقاك، سواء مصادفة أو بطول لقاء وبالأخص على هامش معارض جماعة الفنون التشكيلية بالقطيف، والذي أشهد بأنك أحد المشجعين لها بالكلمة الطيبة والشد على أيدي الفنانين والفنانات وبهم تعتز وتفتخر، من ينسى وقوفك المشرف أثناء لحظات الافتتاح، برفقة قريبك الفنان حسين القطري وكأنكما توأمان، تتناقشان مطولا حول المضمون والفكرة من وراء كل عمل فني، وكم نتلمس حرصك الزائد لزيارة المعرض الواحد أكثر من مرة، ولا تخلو زياراتك من نقاش ايجابي مع الزوار ومجتمع أهل الفن، لقد عرفك الجميع دائم الحضور منذ تأسيس جماعة الفن منذ 1996 زائرا غير عادي، بل متابع ومؤثر، وما أدل على ذلك، تلك الوجوه القادمة من البلاد العربية التي عرفتنا عليها، فحين تتلمس عند أعضاء هيئة التدريس في مدرستكم بأن مدرسا لديه ميلا للثقافة أو الفن الا وتصحبه معك لزيارة نادي الفنون لتعرفه على انتاج شباب وبنات البلد، وحسنا فعلت حين قدمت لنا فنان بمستوى عال لنستفيد من فنه وخبرته، وهو الأستاذ الفنان سيف الدين لعوته، من السودان الشقيق، والذي أقام ورشتين في مجالي فن الجرافيك وفن الخزف بالمجان تبرعا منك ومنه خدمة للجماعة الفن التشكيلي، وأيضا عرفتنا على الشاعر المصري خفيف الظل مصطفى الكحلاوي الذي أصبح دائم الحضور وأقام أمسية شعرية ضمن الفعاليات الفنية السابقة.
هي الاجواء الجميلة التي جمعتنا معك في رحاب نادي الفنون بأحاديث مطولة في الأدب والثقافة والفن، ملما بأعلام الفكر منذ ربع قرن حينما عرجنا معا على شخصيتي ”بتراند رسل وسارتر“ وأوغلنا حديثا ذات مرة عن ”كولن ولسون“ ووقفنا مطولا حول كتابه الأشهر ”اللامنتمي“.
يا أبا علي أنت المنتمي للثقافة بتواضع جم دون ادعاء ولا صخب، لديك نظرة متميزة حول الحياة ونتاج الآخرين بمختلف مجالات الفنون، ولديك سعة أفق في اشكالات التاريخ، وفهم وتحليل لمجريات الواقع الراهن ومتغيرات الأحداث المعاصرة، آراؤك لا تنبع من هوى أو عاطفة بل نظرتك عقلانية.
كنت أرى الفرحة والبشر مرتسم على محياك لكل فنان قادم جديد على الساحة وتقول: ”عليكم بتشجيعه“، وكم تغنيت بقرائح الشعراء ومداد الأدباء وجموع المثقفين التي تزخر بهم القطيف، وتقول ”بأن القطيف أرض خصبة بالمواهب“.
وعندك العمل الفني لابد من أن يحمل رسالة ما، غير مؤمن بتاتا بأن الفن للفن، مؤكدا بأن الفن للمجتمع.
ولديك تقييماتك الخاصة فيما ينشر سواء مقالات أو كتب، وأُصيخ السمع لبوحك الشفيف وأقول لك كلي آذان صاغية يا أبا علي: ”ما عليك من طنطنة الحچي، هذا الكاتب ماعنده شيء“، لكنك ضد المحبطين ومبتعدا عن تكسير المجاديف ومحرضا في الوقت عينه لفعل المزيد من الانجاز والاتيان بالأرقى والأفضل.
أيها المربي الفاضل والأستاذ الموسوعي رحلت بصمت، لكنك أحدثت أصداء واسعة لكل من عرفك أو اقترب من بستان خلقك ونهل من ثقافتك. يا أبا علي ندرك بأن لكل أجل كتاب، لكن وقع الموت على النفس مؤلم، والأشد ايلاما رحيل مثلك، كم قلت لي مرات ومرات حينما يطول بنا البعاد، ما هو آخر كتاب قرأته؟
تتباين اجاباتي ويتلعثم لساني وردك يوبخني من حيث لا أشعر وكأنك تستعير كلمة سيف الرحبي، ”أسوأ ما يقع للمرء أن يكون غير قادر على القراءة“ وفي هذه اللحظات الوذ بذكراك كطيف أُحاكيه بعد الغياب الأبدي، كلنا في الحياة يا أبا علي كتاب مفتوح ندوّن فيه مسراتنا والأوجاع، ما يسر وما يحزن، ما يضحك وما يبكي، ذات يوم سوف تطوى صفحاتنا ويتوقف القلب عند آخر سطر من أعمار كتابنا آجلا أم عاجلا، بعدها سنركن في مكتبة الراحلين كمخطوط منسي، والمحظوظ من يتصفحه بني قومه ويقرأ ما به من خصال حميدة أو فعل ايجابي نحو المجتمع والحياة، اليوم قرأت كتاب نعيك بحزن عميق، أنفث الآهات تلو الآهات، برحيلك سأفتقد شخصا محرضا على الوعي والفهم بصدق القلب واللسان.
رحمك الله يا أبا علي رحمة واسعة وعظم الله أُجور أهلك وكل أقاربك والمعارف والأحباب طبتم نفسا جميعا، عزائكم عزائنا وحزنكم حزننا، وإنا لله وإنا اليه راجعون.