المحاماة.... مهنة العظماء أم اشتاتاً للدخلاء..؟؟
المحاماة «القضاء الواقف»: هي المهنة الحرة التي تساعد السلطة القضائية على إظهار الحقائق، وتحقيق العدل، وتأكيد سيادة القانون، وهي مهنة حقوقية ذات جانب رسالي عظيم، جعلها في نظر بعض فلاسفة القانون الفرنسي «جارسونيه» في مقاربة مع رسالات السماء، وسماها البعض مهنة العظماء، لارتباطها بالعدل وإحقاق الحق، فالعدل هو علة إرسال الرسل والرسالات، قال تعالى ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ الأعراف - 29.
وعن مهنة المحاماة قال المفكر الفرنسي فولتير: «كنت أتمنى أن أكون محامياً، لأن المحاماة أجمل مهنة في العالم... فالمحامي يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السواء، وهو يضحي بوقته وصحته، وحتى بحياته في الدفاع عن متهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق».
وتتسم مهنة المحاماة بالخطورة الكبرى والدقة معاً، فإن اكتسبت عظمتها ورساليتها من نصرة المظلوم، وإعادة حقوقه، وكف يد الظالم عن ظلمه وجوره، فلابد أن تكون ضمن إطارها الحقيقي، وإلا أصبحت ساحة لغياب العدل، وضياع حقوق المظلومين، وسلعة يستغلها الدخلاء، من أصحاب الضمائر الميتة، والنفوس المريضة بالجشع، وانعدام القيم الإنسانية.
فهل شكلت مهنة المحاماة حصناً عالياً، وسداً منيعاً ضد أي فاقد لأخلاقيات هذه المهنة؟ أم أنها لاتزال باباً مُشرَعاً لكل الدخلاء؟
من المفارقات العجيبة، أن نجد مهنة المحاماة، ذات الصلة الوثيقة بميزان الحق والعدل...، لاتزال متاحة لبعض الدخلاء «من خارج التخصص الأكاديمي»، الذين يمارسونها بجهل مُطبق، بعيداً عن أي نزاهة، متخذين منها تجارة، لتمرير أبشع طرق الحيل والخداع، دون أدنى التزام بأخلاقيات هذه المهنة الرسالية.
وبعيداً عن الاستغراق في متاهات الجدل، فإن التجارب الحية هي ما تؤصل لأي فكرة في وعي الإنسان، من خلال ما تنفتح به على واقع الحياة، فمثلاً الوكيل المؤتمن على قضية ما، حينما يستميله الإغراء، ويستعمل مهارته وأساليبه في قلب الحقيقة، والانحراف عن العدل، فإن مهنة المحاماة تصبح أقبح وأسوأ مهنة يمارسها الإنسان، لأن من يأتي للدفاع عن حقوق المظلومين، فعليه الالتزام برسالته في تحقيق العدل، ونصرة الحق، دون أن تُشرف نفسه على طمع، فيُعين الظالم على ظلمه، في مقابل الجشع والمكاسب المادية، وإن كان الثمن خسارته لنفسه وكرامته، وبث الظلم والفساد والجور في المجتمع.
إذاً لابد للعدل من معيار حقيقي تقاس به الحقوق، بعيداً عن هوى النفس وأطماعها...، ومصداقاً لقوله تعالى ﴿وَلَوِ آتَّبَعَ آلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ آلسَّمَٰوَٰتُ وَآلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ المؤمنون-71، ولرسالة العدل للإمام علي حين قال «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم»، ولقوله «رحم الله امرءاً أحيا حقّاً وأمات باطلاً ودحض الجور وأقام العدل»، فكم نحن بحاجة إلى ترجمة هذا المنهج العظيم، ترجمة فعلية في حياتنا بشكل عام، كما في المهن الرسالية الكبرى كمهنة المحاماة، فالمحامي الحقيقي هو الذي يسعى لرفع الظلم، وإحياء الحق، ونشر العدل بين الناس، والعدل لا يستقيم مع الظالمين بأي حال من الأحوال.
وبطبيعة الحال تمثل التجارب نافذة، تُطل بالإنسان على واقع الحياة، وتعمق رؤيته، وتزيد من وعيه، وإدراكه، لكنها بالمقابل تحمله مسؤولية بث هذا الوعي بين الناس، اتجاه ما يحدث في المجتمع من تجاوزات حقوقية أو غيرها، وهذا يقودنا إلى التنبه لكثير من النقاط في هذا الجانب ومنها:
1 - يجب اسناد القضايا لذوي الاختصاص، من الملتزمين بأخلاقيات المهنة، وأصحاب الكفاءات العالية، والثقافة القانونية الشاملة، والمواكبة للمستجدات القانونية.
2 - الاطلاع على اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية، والتركيز على كل بنودها، لاسيما قضايا الأحوال الشخصية كقضايا «الإرث... وغيرها، والتي أصبحت تعج بها أروقة المحاكم»، ويمكن تعزيز الثقافة القانونية أيضاً، من خلال الدورات المتاحة عن بعد «مثال المعهد العلمي الإداري للتدريب».
3 - الحذر الشديد، من الوكلاء المسوقين لأنفسهم، باستعراض الإنجازات الوهمية، والمزايدات الدينية، والحديث المطول عن النزاهة والأمانة...، وإعطاء نتائج مسبقة لكسب القضية «99%» قبل دراسة القضية!
4 - التريث والسؤال المستفيض جانب مهم، قبل اسناد القضايا لأي طرف، مع البعد عن إلحاح سماسرة الوكلاء، مهما بدت عليهم من سمات التقوى.
5 - التركيز الدقيق على بنود الاتفاقية، وتسجيل كل نقطة، دون الاكتراث لأساليب الترويج، مع الحرص على الاحتفاظ بأصول ملفات القضية.
6 - قراءة كل لائحة أو مذكرة يصيغها الوكيل، قبل وضعها على نظام ناجز، والتأكد من صحة ودقة محتواها.
7 - إن غياب الشفافية والمصداقية لدى الوكيل، هو مؤشر لعدم تمثيل الموكل بأمانة، ومن الضروري حضور الموكل لجلسات المرافعة، والتأكد من تقديم الأدلة والأسانيد والدفوع، دون تحوير، أو التفاف على محتواها، إضافة لمتابعة القضية على نظام ناجز، للتأكد من كل خطوات سير الدعوى وما يتم رفعه من طلبات.
وأخيراً، تبقى مهنة العظماء للعظماء، بإنسانيتهم، وبأخلاقهم المهنية، حينها تصبح هذه المهنة ميزان للعدل وإحقاق الحق، ونشر الخير بين الناس، لا أن تكون أداة لتضليل العدالة، والتجاوز على حقوق الناس من أجل الأطماع والمكاسب المادية.