آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

لم نعد نتحدث

أحلام الحجاج

كثير من الصدف في الحياة ليست عبثية بل هي مرتبة ومخطط لها من السماء وفق تقدير إلهي، لكن للأسف لا يدرك الكثير منا هذا الجانب من الحياة.

لهم قلوب لكن لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، لذا فهم لا يشعرون بما يدور حولهم أو بالتحديد يمرون مروراً عابراً في هذه الحياة، ويرحلون دون أدنى تأمل منهم دون ترك أي أثر.

هم يعيشون حياة لا غاية لها ولا هدف، يعيشون التسول والفقر الروحي والنفسي والجسدي أيضاً.

كم من مرضى يتوجعون ولا يعلمون سبب عللهم وأوجاعهم، يلتهمون العقاقير بدون وعي وإدراك بأن سبب أمراضهم هو جهلهم بقيمة حياتهم ووجودهم على هذا الكوكب الذي هو أرض الرسالات.

ويبقون يدورون حول هذه الدائرة الخاوية من أي حياة دون ترك أدنى أثر.

وأنا أكتب هذه الكلمات حضرت في ذهني صورة لشخصية تعرفت عليها من خلال إحدى مواقع الإنترنت من خلال مشاركات كنا نعبّر فيها عن مشاعرنا ونوقد شعلة الانبهار بهذا العالم بكتابة كل ما يجول بخواطرنا، تلك الشخصية ومن خلال ما تكتب اكتشفت انها تتألم كثيرا وتشعر بالوحدة وطبيعي أن تستشف شخصية ما يدور في ذهن الكاتب من خلال بضع سطور كتبها.

هذه الكاتبة الجميلة الرقيقة ألفتها وألفتني فكم من الأرواح رغم قساوة الحواجز تخترقها لتسكن قلوبنا.

تبادلنا أرقام الهواتف ولم يكن حينها برامج التواصل الاجتماعي موجودة، لذا فقد كان الهاتف وسيلة التواصل بيني وبينها.

وفي يوما ما اتصلت بي وكم كان صوتها يحمل من الصفات التي تكتشفها من نبرة.

نعم هي حقيقة إذا أردت أن تعرف صفات الأشخاص دعهم يتحدثون ولا تحكم على الناس من أشكالهم أو من خلف الشاشات فقد تخطئ وتندم بعدها لأن الحكم قد يكون جائرا وظلم لمن حكمت عليه، أعتقد أنتم أيضا صادفتم في حياتكم أناس، قد حكمتم عليهم بالغباء، والسذاجة لدرجة أن هذا الحكم أثر على تلك الشخصية التي أشبعناها بتلك النظرة البائسة إلى حد الاقتناع، لكن ما أن نقترب منه حتى تلامس شفافية روحه وعمق نظرته ولطافة تمييزه للاشياء.

كم نحن جائرون بدل من أن نأخذ بأيديهم ونستخرج أجمل مافيهم، ندفنهم وهم أحياء، كم هذا مؤلم للروح.

صديقتي الجميلة اكتشفت من خلال عدة مكالمات انها ذكية جدا وعندها عقلية فذة وفكر متوقد لكن صُدمت بواقعها والبيئة التي تعيش فيها.

للأسف بعض الأمهات يقسون على بناتهن قد تكون هذه القسوة ترجع للجهل وأما لتربية الأم نفسها والبيئة الأسرية التي عاشت فيها، إذ لم تتلقى الحب والاهتمام من والديها إلى أن وصلت إلى أنها تعتنق فكرهم وشدتهم في التربية.

وعلى الرغم من النقد لهذه الأسرة والحياة الباردة التي كانوا يعيشونها مع أبنائهم لكن للأبناء أيضا ملامة، أنتم في عصر المعلومات والانفجار العلمي، لكم روافدكم ومطالعاتكم على العالم والانفتاح على الثقافات الأخرى، فلا يحق إيقاع اللوم على والديكم وتقصيرهم تجاهكم.

بل لا بد على الطرفين السعي لردم الهوة والحواجز وبناء جسر التلاقي والتفاهم والمصاحبة، فأنتم جيل تختلف مقاييسه عن زمنهم وحياتهم.

نعود لصديقتي الجميلة وتفاصيل علاقتي بها عندما وجدت رغبتها في التواصل معي واسترسالها لساعات في الحديث والفضفضة رغم مسؤليات البيت كنت اعطيها الوقت لتعبر عن مشاعرها تجاه والدتها وكيف أنها مهمشة في بيتها، لا يؤخذ برأيها ولا يُحترم قرارها.

بدأت حينها أنصحها وكوني أم فأنا استشعر حنان الأمهات مهما قسوا على عيالهم.

قمت بإعطائها بعض من الخطط التي من خلالها تبدأ بعلاقة جديدة مع امها.

وفي كل مرة تتصل بي اسألها عن تطور العلاقة وتبدأ هي من جديد في سرد مشاعر الألم والحزن والقنوط بأن لا جدوى من تغير معاملة والدتها وأنا في كل مرة أفتح لها بابا لكي تلتقط منه الهواء اللطيف لتخرج ما بداخلها من سلبيات سوداء ولكن دون جدوى.

مرت أيام وأيام ونحن على تواصل مع بعضنا البعض هي تتذمر وتشتكي من شر المعاملة وانا أهدأ من تلك المشاعر واعطيها كلمات دافئة إلى أن التقيت معها في دورة من الدورات وتعرفنا وتعانقنا هنا خنقتني العبرة لأني شعرت بأني قسوت عليها في حديثي معها.

شكلياً كان حجمها صغير بالنسبة لعمرها وبسبب هذا الحجم لم تُتاح لها فرصة الزواج وأخواتها اللاتي يصغرنها تزوجن وأسسن حياة زوجية ورزقن بأطفال، وهذا بالتأكيد له أثر بالغ في نفسها ونظرتها لذاتها مما جعلها ترى ذلك النقص وتعمى بصيرتها عن رؤية الأشياء الثمينة بداخلها إذا بات هذا الأمر هو جلّ تركيزها.

أتذكر بأني عانقتها بشدة وكأني كنت أريد أن أغدق عليها بالحنان والاهتمام التي كنت أرى بأنها محرومة منه، وأتساءل: ترى هل ممكن أن نعوض نقصاً في الآخرين؟

كل ما علينا هو أن نسعى لبناء الجسور ونرمم ما حاولوا هدمه.

جلسنا وجمال عينيها ينضح ذكاء وقوة ملاحظة، وفي داخلي خلجات وأسف إذ كيف تضيع هويتنا وسط زحام الاعتقاد السلبي ضد أنفسنا؟!

ونحن نتاول الطعام طوال هذا الوقت الذي امضيته معها كانت تختلس النظرات وترفع بخجل عينيها نحوي وغالبا عندما تتحدث ترخي بعينيها وهذا إن دل دل على عدم وجود ثقة بنفسها.

هي ترى أنني أراها بنفس هي ما تنظر به لنفسها لكنني والله يشهد كنت معجبة بها بخجلها وابتسامة عينيها قبل شفتيها وبجمال الله في داخلها.

وجدت أن قسوتها على نفسها أعظم وأشد من قسوة والدتها كما هي صورتها لي.

وبعد أحاديث بيننا ودعنا بعضنا على وعد التواصل وعدم الانقطاع.

حينما وصلت إلى المنزل لم تبارح فكري كلامها حبها للنظام وانزعاجها من استهتار الفتيات بالحجاب وغيرها.

وجدت عندي إصرار عميق بأن أخرجها من هذه الشرنقة لترى جمال مواهب الله فيها وأن هذا الفراغ الذي تعيشه ليس بالضروري علاجه إصلاح العلاقات بل شي أعمق وأهم من كل ذلك، جلوسها بالمنزل والفراغ الذي يحيط بكل تفاصيل حياتها، جعلها تنظر نظرة دونية لنفسها وتركز على جسمها النحيل وقامتها القصيرة دون أن تلتفت لما حباها الله، وبدأت أبحث عن مركز فيه ما يشبع رغبتها في تحصيل العلوم، وكم استفاضت الكتب من أقوال العلماء حول أهمية العلم وثماره العبقة على الإنسان وعقله إذ قيل:

اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ؛ لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ

وعن الإمام علي بن أبي طالب يقول: ”ليس اليتيم من مات والده، إنّ اليتيم يتيم العلم والأدب“.

وأبو حاتم الرازي يقول: ”من أمضى يوماً من عمره في غير حقّ قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسّه أو علم اقتبسه فقد عقّ يومه وظلم نفسه“.

أتمنى لو يكون هناك منهج تأسيسي يعلم الأبناء أهمية العلم قبل أن يبدأوا معهم تعلم المناهج والتلقين، أتصور بأن المجتمع بهذه الافتتاحية الفاخرة سوف يمحق الجهل فلا مكان له بينهم.

لكن لعدم وصول فكرة أن العلم حياة للشعوب أضعنا هوية العلم.

وبعد تفكير عميق هُديت بفضل الله إلى أن أوجه صديقتي لتعلم الدروس الدينية وبحثت لها عن مراكز قريبة منها لكي لا تتعذر بأي أمر يجعلها ترفض، فبعدما حصلت على رقم المركز تواصلت مع صاحبته وعن المناهج التي تدُرس فيه والأنشطة المدرجة أيضا عرضت الفكرة عليها وكعادتها لا تتقبل بل لا بد من تبريرات وتحويرات وأعذار جمّة.

لا أخفيكم فأحياناً أشعر بالقنوط منها فأقوم بتجاهلها لبضع ايام لا أتحدث معها ولا أرد على رسائلها الالكترونية، لكن في جانب آخر أشعر بحس المسؤولية تجاه مثلها، وأنه من الواجب الأخلاقي أن أقوم بمساعدتها بما أُتيح لي من ادراك للحالة البائسة التي تحيط نفسها بها.

وأثناء عرض مسألة التعلم والالتحاق بالمركز واستحضار مستقبلها الباهر حينما تتخرج من المركز أما معلمة وإما اعلامية كون المركز مهيأ لكثير من الاختيارات ومتاح للطالبات اكتشاف مواهبهم.

أحسست بأنني بإصراري سوف أنجح في ذلك وأخرجها من حالة الفراغ النفسي والروحي الذي تعيشه وطلبت منها أن تدرس الأمر الذي عرضته عليها بتأمل وتفكير منطقي، وقمت بإرسال رقم المركز في حين أنها وافقت وستلتحق به، خلال هذا الوقت كنت استغل الوضع بإرسال بعض المواضيع التحفيزية كي تتشجع.

اتذكر كانت تستفزني بكلامها فكانت شديدة المراس وعنيدة جداً لدرجة أني أشفقت على والدتها.

وقرابة الشهر كنت أحاول أن يتسع صدري وأدعو الله أن يمنحني الصبر.

وفي يوم ارسلت رسالة بأنها وأخيراً التحقت بالمركز وكم غمرتني الفرحة واسعدني قرارها، وعلى مدى أيام الدراسة كنت اتواصل معها واستفسر عن انطباعها ومدى رضاها عن المركز.

شكت لي صعوبة بعض الدروس وممارسات سمتها غريبة من بعض الطالبات.

أخذت شهيق عميق وزفير طويل كنت مصره ألاّ تضيع خطتي والرؤية المستقبلية لصديقتي التي صنعتها لها لأنها تعد خسارة كبيرة أن لا يستفيد المجتمع من فكرها الوقاد ومواهبها المتعددة.

وكنت كل يوم انتظر مكالمة منها تعودت منها الثرثرة والنقد ولكن كنت اتلحف الصبر وأتأمل التغير وهنا حدثت المفاجأة المتوقعة، اكيد للعلم سحر وفي قعره الكنوز كالبحر لا يدرك قعره، عجيب هذا العلم يخلق روح متجددة ونفوس عظيمة، خصوصا عندما يكون العلم من منهل معين نقي رقراق يمر على القلب فيبصر الحقائق، وعلى النفوس فتنمو ازهار المحبة والتقدير للذات، فترى نفسها أعجوبة السماء وأنها أكرم وأشرف مخلوق على وجه اديم الارض.

اختفت صديقتي ولك أعد اسمع صوتها، اقرأ رسائلها المشحونة ألم وتحسر فالكتب والمسؤولية التي انيطت بها شغلتها عني رغم شوقي العارم لتواصلها لعنادها وتذمرها المستمر، لكن الفرح والانتصار ورؤية التغيير الإيجابي كان الغالب على الشوق.

أخيرا؛

أن تزرع بذرة ترويها بالإيمان بأن الإنسان قادر أن يقتلع جبال القسوة والحسرة لهو أعظم عمل تقوم به، أن تحمل بذور الحب وتنثرها وتسقيها في كل مرة كفيل بجني ثمار أبدية، لايكلفك ذلك شيئاً.

أحمل الحب والتقدير لأي إنسان لتزرع بنفسه كل مقومات الحياة الطيبة.

فأين أنتِ صديقتي كم أشتاق إليك.....